يحمل هذا المحل البسيط، القديم، ذكريات لسنوات مضت فيها الحزن والفرح، ذكريات حروب وانتصارات، ذكريات من الألم، حيث اعتاد هذا العجوز الذى يبلغ من العمر 95 عاما، أن يستيقظ من نومه مبكرا ويذهب إلى محله فى الصباح الباكر وهو محل لبيع الغلال؛ ليفتحه فى تمام الساعة السابعة والنصف صباحا، ورغم كبر سنه إلا أنه تعود على العمل.
الرجل العجوز : عاصرت زمن الملك فاروق و الملكة فريدة
يروي الحاج تمام محمد تمام، أقدم بائع غلال ببورسعيد، لـ'أهل مصر'، تفاصيل قصته وكيف يهرب من وحدته ويعيش مع ذكرياته التي ترويها جدران المحل الذي يبيع فيه كميات قليلة من الغلال، لا يبحث عن الرزق بمقدار ما يبحث عن الذكريات، لا يبيع طوال اليوم سوى بالقليل، ولكنه يقبل يده 'وش وضهر' ودائما ما يردد لسانه 'الحمد لله'.
يقول عم تمام، إنه لا يتذكر أشياء كثيرة من الماضي الجميل، ولكنه يتذكر أنه عاصر زمن الملك فاروق والملكة فريدة وحكومة صدقي باشا وكل الذكريات السياسية تعيش في وجدانه، فهو لم يتذكر متى توفيت زوجته وشريكة حياته.
عم تمام : محلى كان مخبأ لرجال المقاومة الشعبية
ويسرح بخيال واسع، ويقول إنه كان يعمل فى بيع السجاد قبل بيع الغلال، وكانت هى مورد رزقه ولديه ثلاثة بنات اثنتان متزوجات وتعيشان خارج مصر والثالثة مطلقة وتقيم معه، وزوجته توفيت منذ سنوات عدة لا يستطيع أن يتذكر عددها، ولكنه يؤكد أنه فقد جزء من حياته وذكرياته بفقدانها.
ويروى الرجل العجوز، ذكريات العدوان الثلاثى على بورسعيد عام 1956، ويقول إنه جعل من المحل الخاص به والذي لا يملكه ولكنه 'إيجار قديم' فى أحد المنازل القديمة بشارع طولون وهارون مخبأ لرجال المقاومة الشعبية أثناء العدوان، حيث كان يغلق باب المحل عليهم أثناء مرور دوريات جيش العدوان، لأن المحل على مقربة من شارع محمد على المكان الذى كانت تنطلق منه دوريات العدو بل و تقدم أيضا فيه لتفتيش المارة من الفدائيين.
عجوز بورسعيد : عاصرت كل الحروب و الثورات
ويُتابع: 'كنت أذهب إلى بيوتهم حتى أرسل رسالة طمأنينة أسرهم لأنهم كانوا يسمعون صوت دوريات الأجانب ويخشون على أزواجهم الذين لم يعودوا، وبالفعل كنت 'مرسال الطمأنينة'، وكنت أقف بجوار المحل وهو مغلق عندما تقترب الدورية كنت أغني بصوت مرتفع، أغنية لأم كلثوم أو عبد الوهاب حتى لا يشكون فى الأمر وحتى لا يصدر من المختبئين صوتا يدل على مكان وجودهم بالمحل، و بعد مرور الدورية كانوا ينطلقون واحدا تلو الآخر وأنا أراقب المكان عن بعد'.
ويستطرد: 'رغم أننى أصبحت عجوزا وتخوننى الذاكرة في أشياء كثيرة إلا أنني أتذكر حرب 1948، 1973، 1956، بمعنى عاصرت كل الحروب والثورات، وهناك ذكريات من الزمن الجميل الذي عشته وعيش بداخلنا حتى الموت، فبورسعيد كانت مدينة صغيرة ونظيفة وجميلة تشبه المدن الأوربية وكنا نشعر بالأمان فيها.
وأردف: 'تزوجت بناتى وإحداهن تعيش معى 'مطلقة' تقوم بخدمتي ورعايتي وتنصحني بأن أجلس فى المنزل للراحة إلا أنني أرى راحتى فى العمل؛ عندما يشترى منى مواطن كيلو أرز وسعره الآن 10 جنيهات أتذكر عندما كنت أبيعه 'بمليم'، وأقول لحالى: 'يا الله لقد مر كل هذا العمر' أتمنى من الله أن ينهى حياتى وأنا فى كامل صحته حتى لا يتضرر منه أحد ولا أكون عبأ على ابنتى التى هى أنيسي وونسي الآن'.