يُعد قانون الإيجار القديم في مصر إحدى أعقد المشكلات التي واجهت الدولة على مدار سنوات طويلة، وظل حلها عصيًا على الحكومات المتعاقبة. هذه الأزمة، التي تؤثر على ملايين الأسر وتعيق حركة الاستثمار العقاري، تتطلب مقاربة شاملة تراعي مصالح جميع الأطراف المعنية: المستثمرين، الحكومة، المالكين، والمستأجرين. وفيما يلي، نستعرض رؤية مقترحة قابلة للتعديل والإضافة، تهدف إلى فك هذا التشابك القانوني والاجتماعي.
أصحاب المصلحة: تباين الأهداف وتضارب المصالح
لفهم عمق المشكلة، لا بد من تحديد الأطراف المعنية وأهدافها:
المستثمرون: يركزون على الأماكن الحيوية ذات القيمة المضافة العالية، وهدفهم الأساسي هو تحقيق الربح المادي من خلال استغلال هذه العقارات.
الحكومة: تسعى لحل المشكلة بأقل خسائر ممكنة، مع السعي للاستفادة من أي حلول تطرح، بهدف تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
المالك: يرى عقاره الذي تبلغ قيمته السوقية ملايين الجنيهات يدر عليه مئات الجنيهات فقط. يطمح المالك لفسخ العقد دون دفع مقابل، متطلعًا إلى تدخل الدولة لتسهيل هذه العملية. هدفه النهائي هو تحقيق مكاسب مادية من ملكيته.
المستأجر: يتمسك بالعقد الرضائي والقانوني الذي أبرمه مع المالك، معتبرًا أنه دفع مبالغ كبيرة وقت التعاقد ولم يرتكب أي مخالفة تستدعي الطرد. هدفه الأساسي هو الحفاظ على استقراره ومكتسباته.
تقسيم الشرائح وتحديد الحلول المقترحة
للوصول إلى حلول عملية، يمكن تقسيم الوحدات السكنية الخاضعة لقانون الإيجار القديم إلى شرائح، لكل شريحة منها طبيعتها وتحدياتها الخاصة:
1. الشريحة (أ): المساكن الآيلة للسقوط
هذه الشريحة تمثل خطرًا داهمًا على أرواح قاطنيها، وتشكل نسبة كبيرة من الوحدات المؤجرة قديمًا. ففي الإسكندرية وحدها، تشير الإحصاءات إلى وجود 65 ألف منزل آيل للسقوط، مما يعني وجود ما لا يقل عن 150 ألف منزل على مستوى الجمهورية، يقطنها نحو 600 ألف أسرة (بناءً على تقدير 4 أسر لكل منزل).
المقترح:
يجب على الدولة الإسراع في نقل سكان هذه الوحدات إلى عمارات الإسكان الاجتماعي، على غرار ما تم في مناطق العشوائيات. بعد الإخلاء، يتم تسليم المبنى للمالك، على أن تحدد الدولة مبلغًا بنسبة 10% من القيمة السوقية للأرض لصالحها كرسوم إخلاء، وذلك لتغطية جزء من تكلفة توفير الإسكان البديل.
2. الشريحة (ب): الوحدات السكنية غير المشغولة
تقدر هذه الشريحة بنحو 300 ألف وحدة سكنية غير مشغولة من قبل أصحابها.
المقترح:
يتم تسهيل الإجراءات القانونية لفسخ العقد في حال ثبوت عدم تواجد المستأجرين الأصليين أو ورثتهم في الوحدة بشكل دائم، مع مراعاة حالات السفر خارج البلاد بصفة مستمرة.
3. الشريحة (ج): الوحدات السكنية في المناطق المتوسطة والشعبية
تُعد هذه الشريحة الأكبر عددًا وموطن المشكلة الأساسي، حيث تضم أماكن ذات إمكانيات متوسطة ومعدومة.
المقترح:
يتم منح فترة انتقالية مدتها 10 سنوات للمالك والمستأجر للتسوية المالية بتحويل العقود من الإيجار إلى التمليك. يمكن أن يتم ذلك على أساس تقسيم القيمة السوقية للوحدة بنسبة 50% لكل من المالك والمستأجر، وفقًا للعرف المعمول به حاليًا. من المتوقع أن يساهم هذا الحل في تسوية حوالي 30-40% من هذه الوحدات خلال الفترة الانتقالية.
في حال عدم التوصل إلى حل بين الطرفين خلال هذه الفترة، تقوم الدولة بدفع مبلغ مالي يعادل 50% من القيمة السوقية للوحدة، وتتحول ملكيتها إلى الدولة. هذا الإجراء يضمن للمالك الحصول على قيمة نقدية كبيرة، مما يحقق له استفادة مادية. أما بالنسبة للدولة، فإن تكلفة شراء هذه الوحدات ستكون بالتأكيد أقل من قيمة إنشاء وحدات سكنية جديدة. ويمكن للدولة تقسيط المبلغ على المواطن (المستأجر) بقيم بسيطة وبدون فوائد ليتملك الوحدة، مما يحقق الاستقرار للمستأجر. فعلى سبيل المثال، إذا كانت القيمة السوقية لمعظم هذه الشقق أقل من 600 ألف جنيه، فإن ما ستدفعه الدولة سيكون أقل من 300 ألف جنيه للوحدة. هذه الفترة الانتقالية ستسهل أيضًا على الدولة أعمال الحصر وتدبير الموارد المالية اللازمة.
4. الشريحة (د): الوحدات السكنية في المناطق ذات القيمة المالية العالية
تتضمن هذه الشريحة الوحدات المؤجرة في مناطق عقارية ذات قيمة سوقية مرتفعة جدًا.
المقترح:
تقوم الدولة بتعويض المالكين بمنحهم أراضٍ في العاصمة الإدارية الجديدة، مما يتيح لهم فرصًا جديدة للاستثمار العقاري. أما المستأجرون، فيتم تعويضهم بمبالغ مالية تحدد بناءً على طبيعة كل مكان، أو بتوفير شقق سكنية فاخرة في المدن الجديدة. ولتغطية التكاليف، يمكن للدولة بيع هذه العقارات ذات القيمة العالية للمستثمرين المهتمين.
تنفيذ حكم المحكمة الدستورية وزيادة الأجرة
بالإضافة إلى المقترحات التفصيلية للشرائح، يجب التأكيد على ضرورة تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا بزيادة الأجرة بنسبة 10% بشكل دوري، وذلك لتصحيح جزء من الخلل في العلاقة الإيجارية لحين تطبيق الحلول الشاملة.
إن تطبيق هذه المقترحات، مع المرونة اللازمة للتعديل والتطوير، يمكن أن يمثل خارطة طريق لحل معضلة قانون الإيجار القديم في مصر، بما يضمن حقوق جميع الأطراف ويعزز من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.