في زمن أصبحت فيه البنوك قلعة من حديد لا يدخلها إلا من يحمل أوراقًا مختومة وتوقيعات لا تُحصى، وفي عصرٍ صارت فيه المعاملة داخل المؤسسات المالية أقرب إلى منطق الآلة منها إلى قلب الإنسان، يطلّ وجهٌ استثنائي من بين الجداول واللوائح، يبتسم في وجه الفقراء كما لو أنه يوقّع على صكّ رحمة. هذا الوجه هو يحيى إسماعيل، الرجل الذي أطلق عليه الناس – عن صدق لا مجاملة – لقب «مصرفي الفقراء».
منذ أن تطأ قدماك مبنى بنك ناصر الاجتماعي، تشعر أنّ شيئًا مختلفًا يحدث هنا. ليس فقط لأن البنك يحمل في اسمه كلمة «اجتماعي»، ولكن لأن في داخله رجلًا جعلها منهجًا وسلوكًا قبل أن تكون شعارًا. يحيى إسماعيل لا يتعامل مع الأرقام وحدها، بل مع الوجوه التي تختبئ خلفها: أمٌّ أرملة تبحث عن قرضٍ لتجهّز ابنتها، أو عاملٌ بسيط يريد أن يسدّ إيجار شقّته قبل أن يُطرد إلى الشارع، أو شابٌّ يحلم بمشروع صغير لينقذ نفسه من طوابير البطالة.
يحي احمد اسماعيل
ولأن القدر يحب المفارقات، فإن هذا الرجل الذي يُعرف بإنسانيته الفائضة هو في الوقت ذاته من أكثر الموظفين التزامًا باللوائح والتعليمات. لا يتجاوز بندًا، ولا يوقّع على ورقة ناقصة، ولا يمنح قرشًا بغير حق. ولكنه يفعل ذلك بوجهٍ مبتسم، وبكلمةٍ طيبة تخفّف من وطأة البيروقراطية. إنه يعرف أنّ القانون ليس سيفًا يقطع، بل ميزانٌ يعدل. لذلك حين يشرح للمراجع الفقير سبب رفض طلبه، لا يكتفي بعبارة «القانون لا يسمح»، بل يبدأ رحلة بحث جديدة عن طريقة قانونية أخرى، عن منفذٍ مشروع يمكن أن يُنقذ به إنسانًا دون أن يُخالف النظام.
يحيى إسماعيل من ذلك الطراز الذي لو عاش في زمنٍ آخر لربما أصبح كاتبًا أو أديبًا، لأن إحساسه بالبشر فنيّ أكثر منه إداري. لكن القدر وضعه خلف مكتبٍ خشبيٍّ مكدّس بالأوراق، فحوّل المكتب إلى مسرحٍ صغير للرحمة، واللوائح إلى أوراقٍ من عهد بشريٍّ رحيم. هو لا يرى في القرض مجرد رقم، بل يرى فيه قصة حياة. كل طلب قرض عنده أشبه بصفحة من رواية إنسانية، فيها فصول من الألم والأمل، من الكفاح والإصرار.
المشاهد التي تشي بإنسانيته تتكرّر يوميًا في حياة يحيى إسماعيل، حتى أصبح البنك بالنسبة له ليس مكان عملٍ، بل ساحة خدمة عامة، ورسالة يؤديها بضميرٍ وإيمان. هو يدرك أن من يقصد بنك ناصر لا يطلب رفاهية، بل يبحث عن كرامة. هؤلاء الناس لا يأتون ليجمعوا الثروة، بل ليعبروا أزمة، ليجدوا سندًا في لحظة انكسار. ومن هنا يأتي سرّ تعاطفه العميق معهم، فهو يرى في كل واحدٍ منهم نسخة من أبيه أو أمه أو جاره القديم، أولئك الذين يعرف وجوههم التي تحمل الكفاح في التجاعيد والكرامة في الصمت.
من الغريب أن هذا الرجل الذي يعمل وسط أوراق القروض والفوائد والضمانات، لا يتحدث أبدًا عن المال ببرود المحاسبين. بل يتحدث عنه كما يتحدث الطبيب عن الدواء،
ورغم كل هذا التفاعل الإنساني، فإن يحيى إسماعيل لا يُفرّط في النظام. بل هو من أكثر من يحرص على ضبط العمل، لأنه يعرف أنّ الفوضى تضر الفقير أولاً. كان يقول دائمًا: «الرحمة الحقيقية مش إننا نكسر القوانين، الرحمة إننا نفهمها كويس ونستخدمها لصالح الناس». وهكذا صار نموذجًا فريدًا في مؤسسةٍ حكوميةٍ طالما اتُهمت بالبيروقراطية والجمود، فإذا به يجعلها تنبض بالحياة.
في نهاية كل يوم، بعد أن يغادر آخر عميل، يجلس يحيى إسماعيل أمام مكتبه الخشبي العتيق، يرتّب الأوراق بصمت، كأنه يرتّب قصص النهار داخل قلبه. يراجع الطلبات المعلّقة، يسجّل ملاحظاته بدقّة، ثم يرفع نظره نحو السقف ويتمتم دعاءً صغيرًا أن يعينه الله على الغد. وربما لا يعرف أن هذا الغد نفسه ينتظره عشرات الفقراء عند باب البنك، لا يثقون في أي موظف سواه.
لقد أصبح يحيى إسماعيل في نظر هؤلاء البسطاء أكثر من موظف، أكثر من مصرفي. إنه نافذة ضوء في جدارٍ من البيروقراطية، ابتسامة وسط أوراقٍ جافّة، إنسانٌ في عالمٍ كاد ينسى الإنسانية. هو دليلٌ على أنّ الوظيفة مهما كانت محدودة الصلاحيات يمكن أن تتحوّل إلى رسالة إنسانية كبيرة، إذا حملها قلبٌ نقيّ.
في زمنٍ يتباهى فيه البعض بالمناصب والدرجات والبدلات، يكتفي هو بأن يترك أثرًا في قلب كل من مرّ به. وكأن لسان حاله يقول: «مش لازم أكون غني علشان أساعد، يكفيني أكون إنسان». حين تراه خلف مكتبه، لا تراه موظفًا يراجع أوراقًا، بل ترى رجلًا يكتب بخطٍّ خفيّ على جدران الحياة عبارة مصطفى أمين الشهيرة: «الابتسامة صدقة، والرحمة أقصر طريق إلى قلوب الناس.»
ذلك هو يحيى إسماعيل، مصرفي الفقراء، رجل جمع بين دقّة المحاسب ودفء القلب، بين النظام والرحمة، بين البيروقراطية والابتسامة. ولو كان مصطفى أمين بيننا اليوم، لكتب عنه فصلًا في كتابه «أصحاب القلوب الكبيرة»، وقال عنه ما قاله يومًا عن الأبطال الصامتين: «إن بعض الناس يعملون في صمت، فيغيّرون العالم دون أن يدروا.»