ads
ads

النسوية… تحرّر أم إعادة تشكيل القهر؟

نهال جمال عمران
نهال جمال عمران

النسوية بدأت كحركة احتجاج على الظلم الواقعي والمباشر ضد النساء. لم يكن هذا الظلم مجرد اختلاف رمزي بين الجنسين، بل حرمان النساء من الحقوق الأساسية: التعليم، الملكية، المشاركة السياسية، وحتى الاعتراف القانوني بإنسانيتهن الكاملة. في بدايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان يُنظر إلى المرأة على أنها كائن تابع بلا صوت، بلا حماية، وأداة لإشباع رغبات الرجل أو لاستمرار النظام الأبوي.

النسوية المبكرة لم تسعَ لإلغاء التمييز على الأسس البيولوجية أو النفسية بين الجنسين، بل كان هدفها الأساسي هو إنهاء التراتبية الظالمة التي حرمت المرأة من حقها في التعبير، واتخاذ القرار، والاعتراف القانوني والاجتماعي بها. كان التعليم والملكية واستقلال القرار المالي خطوات أساسية لتحرير المرأة من التبعية، وإتاحة الفرصة لها لتصبح كيانًا مستقلًا ضمن المجتمع.

تحوّل النسوية: من التحرر إلى سوق الإنتاج

مع هيمنة الرأسمالية العالمية على المجتمع وشراسة المجتمعات الاستهلاكية، بدأت النسوية—خصوصًا النسخة الليبرالية—تفقد بعدها النقدي العميق تجاه الأنظمة الاجتماعية التقليدية. لم يعد الهدف بالأساس إنهاء الظلم التاريخي وضمان الكرامة والحقوق للنساء، بل أصبح تمكين المرأة يُقاس بقدرتها على العمل لساعات أطول، وتحقيق استقلال مالي يُختزل غالبًا في الراتب، والنجاح وفق معايير إنتاجية صُممت تاريخيًا على قياس الجسد والعقل الذكوريين.

في هذا السياق الجديد، لم تعد الأمومة، والرعاية، والعمل المنزلي تُرى كعمل حقيقي وذو قيمة، بل كخيار ثانوي أو فشل مقنّع، وكأن قيمة الإنسان تتحدد فقط بما يُنتج خارج المنزل وليس بما يحافظ ويحتوي. هكذا أعادت النسوية السائدة إنتاج الفكرة الأبوية نفسها: الإنسان قيمته بما يُنتج، لا بما يحفظ ويحتوي.

الاختلاف بين المسار الغربي والمصري

من المهم إدراك أن المسار أو السياق الثقافي للنسوية يختلف بين الغرب ومصر: في الغرب، ترتكز النسوية على المساواة الكاملة والفرص المتكافئة مع الرجال. التركيز يكون على استقلالية المرأة، والحق في التعليم والعمل، وتحقيق الذات وفق معيار الإنتاجية الفردية. الحرية تُقاس بالقدرة على المنافسة في السوق، والاستقلال المالي، والمشاركة في كل المجالات التي يسيطر عليها الرجال تاريخيًا. وللأسف، ظهرت النتائج السلبية لهذا التوجه بعد انهيار معدلات خصوبة النساء، وتراجع عدد السكان، وتخلي النساء عن الأمومة لأنها مكلفة ومعطلة في سباق التنافس مع الرجال. وأصبحت دول كبرى مثل إيطاليا وألمانيا تشيخ وتنقرض بأرقام مواليد هي الأقل على الإطلاق تاريخيًا.

أما على صعيد آخر في مصر، فتتناول النسوية العدالة والاختيارات والولاية على الذات والمال وملكية الثروة. السياق المصري يضع أهمية على قدرة المرأة على إدارة حياتها، واتخاذ قراراتها بحرية، والتحكم في مواردها المالية والممتلكات، دون أن يعني ذلك بالضرورة تقليد نموذج الرجل. النسوية المصرية تتعامل مع متطلبات محددة مثل حماية الحقوق القانونية، والاعتراف بالعمل المنزلي والأمومة، والحرية في الاختيار الشخصي، وهو سياق مختلف تمامًا عن السياق الغربي.

هذا الفرق في المسار غالبًا ما يُغفل في الخطاب النسوي السائد، إذ يُطبق على النسوية المصرية نماذج غربية للتمكين، متجاهلين أن التحديات المحلية مختلفة، وأن المساواة المطلقة بمعايير الرجل لا تخدم مصالح النساء ولا تمثل الإجابة لتحسين الأوضاع أو ضمان حقوق النساء في مصر. بالطبع، المطالبة بالأجر المساوي لنفس العمل حق أصيل، لكن تمكين النساء من مواريثهن ونفقاتهن أولوية رئيسية. تغير العادات الموروثة من السيطرة على القرار النسائي الإنجابي والمالي هي أهداف تؤثر مباشرة على حياة ملايين النساء يوميًا. احترام أدوار الأمومة ومكانتها يمس جميع المصريات. النسوية المصرية تحتاج إلى الاعتراف بفشل مسارات النسوية الغربية بالنظر لمعدلات العنف ضد المرأة، وانخفاض معدل المواليد تاريخيًا، وتراجع الأمومة ودور الأسرة.

هل أصبح العمل شرطًا للقيمة الإنسانية؟

في النسوية الليبرالية الغربية، أصبح العمل شرطًا مركزيًا لتحديد قيمة الإنسان. الإنسان يُقاس بما يُنتج، لا بما يحافظ على الجماعة أو يربطها بالرعاية. هذا المعيار أعاد إنتاج الفكرة الأبوية نفسها بطريقة جديدة تحت غطاء 'التمكين الاقتصادي' و'الاستقلال المالي'. أما في مصر، فالمسار مختلف. قيمة المرأة تُقاس بقدرتها على الاختيار والولاية على حياتها وممتلكاتها، والعمل ليس شرطًا وحيدًا للكرامة الإنسانية. المرأة التي تختار العمل أو البقاء في البيت لإدارة شؤون أسرتها يجب أن تُعتبر كاملة الحقوق، وليس أقل قيمة.

المبدأ الأنثوي وأهميته المفقودة

المجتمعات التقليدية في مصر كانت تعرف المبدأ الأنثوي على أنه مبدأ الاستمرارية، والرعاية، وضمان بقاء الجماعة. الأمومة والعمل المنزلي والرعاية الاجتماعية كلها أعمال أساسية لبقاء المجتمع، لكنها غالبًا تُغفل في الخطاب النسوي الحديث. النسوية الغربية تميل إلى تجاهل هذا البعد، حيث التركيز يكون على الإنتاج الفردي، بينما النسوية المصرية تؤكد أن العمل غير المرئي والاختيارات الشخصية والولاية على الذات والمال جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية الحقيقية.

الحاجة إلى نسوية جديدة

العالم اليوم يحتاج إلى نسوية جديدة، لكن هذه النسوية يجب أن تكون مختلفة حسب السياق الثقافي:

في الغرب: نسوية تركز على المساواة والفرص المتكافئة مع الرجال، والحرية الشخصية، والاستقلال المالي.

في مصر: نسوية تركز على العدالة، والاختيارات الحرة، والولاية على الذات، والحق في الأموال وملكية الثروة، وإعادة الاعتبار للعمل غير المرئي والأدوار الاجتماعية التقليدية.

النسوية المصرية تحتاج إلى نموذج يدمج الحقوق القانونية والاجتماعية والاقتصادية مع القيم الثقافية المحلية، بحيث لا تُفرض عليها معايير غربية لا تتناسب مع السياق المحلي. الحرية والتمكين في مصر يجب أن تُقاس بقدرة المرأة على اتخاذ قراراتها بحرية، وإدارة حياتها ومواردها، وليس فقط بالقدرة على الإنتاج في سوق العمل.

الخلاصة :

النسوية كما بدأت كانت حركة لتحرير المرأة، لكنها مع مرور الزمن، خصوصًا في الغرب، تحولت في أجزاء منها إلى أداة لإعادة إنتاج أشكال القهر القديمة تحت مظلة الاقتصاد والرأسمالية.

في مصر، النسوية إذا لم تنسخ النموذج الغربي، بل ركزت على العدالة والاختيارات والولاية على الذات والمال، وهو مسار مختلف يتطلب الاعتراف بالخصوصية الثقافية والاجتماعية.

النسوية المصرية، إذا وضعت في الاعتبار الخصوصية الثقافية، يمكن أن تصبح نموذجًا للحرية والعدالة والتمكين الحقيقي، بعيدًا عن التماثل مع الرجل أو سوق العمل القهري، مع الحفاظ على قيم الأمومة والرعاية والعمل غير المرئي كجزء من الكرامة الإنسانية.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً