في مقهى سولافة، الذي تديره السيدة السودانية بابتسامة هادئة وذكاء خفي، كان الجو ذلك الصباح مختلفًا عن أي صباح آخر. الضوء الخافت يتسلل عبر النوافذ، ورائحة القهوة الممتزجة بالبهارات السودانية تجعلك تشعر وكأن كل شيء في هذا المكان يحمل أسرار التاريخ. جلست على الطاولة المعتادة أحتسي فنجان قهوتي، أراقب الزبائن الذين يأتون ويذهبون، وأحاول أن أستجمع أفكاري حول ما سأكتبه اليوم عن ثورة يوليو وتنظيم الضباط الأحرار.
دخل محمد الحكيم المقهى وهو يبدو غاضبًا وحانقًا، وكأن عبء نصف قرن من الأحداث قد استقر على كتفيه فجأة. جلس أمامي على الطاولة، مستعجلًا بالكلام قبل أن يضع فنجانه: 'هل قرأت ما يقوله المؤرخ العربي الجديد؟' سألني بعينين متقدتين، 'إن تنظيم الضباط الأحرار لم يكن موجودًا كما نعرفه، وأن جمال عبد الناصر كان يقود شيئًا آخر اسمه تنظيم الولاء، الذي كان مهمته حماية الملك فاروق وعائلته. وبعد أن اكتمل التنظيم، بدأ يعمل مباشرة لحساب الملك، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه عبد الناصر قلب الموازين والانقلاب على الملك.'
حاولت تهدئته، قلت له بهدوء: 'يا محمد، دع الأمور تهدأ قليلاً. التاريخ مليء بالتفسيرات المختلفة، وربما المؤرخ العربي الجديد لديه وجهة نظره الخاصة.' لكنه لم يهدأ، وكان الحماس يتلألأ في عينيه. بالنسبة له، كانت الحلقة الأخيرة التي قدمها المؤرخ كأنها مكافأة لاكتشاف أسرار جديدة.
جلست أستمع أكثر، ووجدت نفسي لأول مرة أسمع عن تنظيم الولاء، وكان شعور الاكتشاف يشبه رشفات القهوة المرة التي تشعل الفضول. قرأت عن الحرس الحديدي للملك فاروق، عن وحداته وانضباطه، وعن ولائه الشديد للعرش، لكن لم أكن أعرف أن الضباط الأحرار زرعوا عناصرهم في قلب هذا الحرس، ليضمنوا السيطرة على الأحداث قبل الانقلاب.
استرسل الحكيم، وعيناه تتوهجان: 'إن دور هؤلاء الضباط داخل الحرس الحديدي كان حاسماً. لقد جمعوا المعلومات الاستخباراتية، تابعوا تحركات الحرس، وأبلغوا القيادة الثورية بكل ما يجري داخل القصر والمناطق المحيطة. لم يكن الأمر مجرد تخطيط، بل تنفيذ دقيق، حيث قاموا بتعطيل أي مواجهة محتملة بين الحرس والقوات الثورية، وفتحوا الممرات للسيطرة على القصر وأماكن الجيش الحيوية بسرعة، وضمان تسلسل القيادة بحيث لا تتسبب أي أوامر من كبار الضباط الموالين للملك في فشل الانقلاب.'
في تلك اللحظة، دخل شاب آخر، زبون فضولي، جلس بجانبنا وسأل: 'هل صحيح أن محمد نجيب وعبد الناصر كانوا من بين هؤلاء الضباط داخل الحرس؟' ابتسم الحكيم وقال: 'نعم، وبعض المصادر تشير إلى ضباط آخرين كانوا ضمن وحدات المشاة والمدرعات، كانوا بمثابة العيون والأذان للقيادة الثورية داخل القصر.'
هنا تدخلت سولافة، وهي تلتقط طرف الحديث: 'والله يا جماعة، أبي حكى لنا عن الملك فاروق… كان ملك مصر والسودان، وكان السودان تحت حكم العرش المصري له… بس أنا مش فاهمة، ليه انفصل السودان عن مصر بعد كده؟'
ضحكنا جميعًا، فالبراءة في سؤالها جعلتنا نعيد التفكير في التاريخ كقصة بشرية، مليئة بالولاءات والصراعات والأسرار. قلت لها: 'لأن السياسة ليست مجرد أحداث، بل قرارات ومصالح، وأحيانًا تكون خارجة عن فهمنا المباشر.' لكنها لم تكتف، فسألت بنبرة طفولية: 'يعني الملك فاروق كان حامي للبلدين، لكن الناس لم تعد تحبه؟'
تعمق الحديث بعد ذلك، وبدأ الزبائن الآخرون يشاركون. أحدهم، ضابط سابق متقاعد، قال: 'الحرس الحديدي كان حديدًا حقيقيًا، لكنه كان له قلب ضعيف أمام السياسة. الضباط الأحرار فهموا ذلك، واستخدموه لصالح الثورة.' بينما أضافت امرأة مسنة: 'كنت صغيرة وقت الثورة، ولكني أتذكر الناس يتحدثون عن عبد الناصر وكأنه فارس خرج فجأة ليحرر مصر، ولكن الحقيقة كانت أعمق وأخطر.'
كان المؤرخ العربي الجديد يطرح قراءة جديدة للتاريخ من خلال الوثائق التي بحوزته، تلك الوثائق التي تكشف أسرار الحرس، الولاءات المتقاطعة، وتحركات الضباط الأحرار، وكيف تمكنوا من زرع عناصرهم ضمن تنظيم الولاء، ليضمنوا نجاح الثورة بسرعة ودون مواجهة دموية واسعة. كل وثيقة كانت نافذة صغيرة نحو عالم مليء بالتخطيط السري، ولحظات الانتصار والخطر.
بين رشفات القهوة وضحكات سولافة، شعرت أن ثورة يوليو ليست مجرد حدث سياسي، بل حكاية بشرية عن الولاء والخيانة، عن القوة والتخطيط، عن الخوف والطموح، وكل ذلك ينسج تفاصيله في زوايا الحرس والولاء والثورة. التاريخ هنا ليس مجرد وقائع جامدة، بل شبكة معقدة من القرارات، من البشر، ومن المصالح المتشابكة التي صنعت مصر الحديثة.
وفي نهاية اليوم، وبين ضحك سولافة وسؤالها البريء، وبين حدة محمد الحكيم وجديتي، بدا التاريخ أمامنا حيًا، يمشي بيننا في المقهى، يهمس لنا عن قرارات غيرت مجرى مصر، عن رجال كانوا أذكياء بما يكفي لزرع عناصرهم في قلب النظام الملكي، وعن لحظة الانقلاب التي جمعت كل هذه الأقدار في يوم واحد. شعرت أن التاريخ لم ينتهِ، وأن مقاهي مثل سولافة هي المكان المثالي لفهمه ليس كحقائق جامدة، بل كرحلة إنسانية متشابكة، مليئة بالأسئلة، الدهشة، والاكتشاف.
صورة افتراضية لمقهى سولافة