في مثل هذا اليوم من العام الماضي، اغتالت يد الغدر الإسرائيلية، الإعلامية الفلسطينية شرين أبو عاقلة صوت الحقيقة وصوت الإعلام النابض بكفاح ونضال الشعب الفلسطيني ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي الذي مازال يعثو في الأرض فسادا ويرتكب جرائمه الدموية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل حتى لحظة كتابة تلك الكلمات، دون رادع أو حساب.
ولم يكن اغتيال مراسلة قناة الجزيرة لاكثر من 20 عاما داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، سوى حلقة جديدة في مسلسل جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وضد كل من يناثر الحقيقة ويفضح جرائم هذا الاحتلال البغيض.
وانتفض العالم الحر وصاحب كل ضمير في الكرة الارضية ضد تلك الجريمة الشنيعة التي قتلت المراسلة الفلسطينية خلال أدائها لعملها في تغطية الاعلاتداءات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، لتكشف باغتيالها ذلك الوجه الدموي القبيح لدولة الاحتلال.
الاغتيال برصاص الغدر الإسرائيلي
في 11 مايو 2022، أطلق قناص من قوات الاحتلال الإسرائيلي النار على شيرين بين الساعة 6:30 و7:00 صباحا، فأصابها في مؤخرة رأسها أثناء تغطيتها غارة عسكرية على مدينة جنين بالضفة الغربية، وقد كانت ترتدي خوذة وسترة الصحافة الواقية من الرصاص.
كانت جنازتها -التي تعرضت لهجوم من قبل القوات الإسرائيلية- واحدة من كبرى الجنازات في فلسطين، وهي شهادة على شجاعتها وتوازنها والتزامها بسرد القصص التي لم يروها أحد خلال رحلتها التي استمرت 25 عاما مع قناة الجزيرة.
تم تداول الصور المروعة لحملة النعش وهم يتعرضون للضرب في جميع أنحاء العالم. ففي وفاتها، كما هي في تقاريرها، واصلت شيرين الكشف عن الحقائق الوحشية للاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري للشعب الفلسطيني.
محطات في مسيرة أبو عاقلة
كان اسم الراحلة شيرين أبو عاقلة، الصحفية في الجزيرة، ركنا أساسيا حاضرا في كل منزل بالأراضي الفلسطينية، مما جعل فلسطين أقرب من أي وقت مضى للعرب والمسلمين إقليميا وعالميا.
انضمت شيرين إلى قناة الجزيرة عام 1997 صحفية ميدانية، حيث قدمها على الهواء مدير مكتب القناة في فلسطين وليد العمري.
في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الصحفيات يخضن مثل هذه التجربة، وشقت شيرين طريقا للعديد من الشابات الطموحات ليحملن المشعل، واستمرت في أداء مهامها حتى أنفاسها الأخيرة.
قبل ذلك بأربع سنوات، كانت اتفاقية أوسلو للسلام قد وُقعت. وفي عام 1995، أنشئت بموجبها السلطة الفلسطينية. وبعد فشل قمة كامب ديفيد (الثانية) عام 2000 وما تلاها من اندلاع الانتفاضة الثانية، انهارت اتفاقيات أوسلو.
كانت شيرين حينها في فلسطين لتسجيل وتوثيق هذه الأحداث التاريخية التي كان لها تأثير هائل على حياة الفلسطينيين، وعلى المنطقة.
وفي عام 1998، وخلال الذكرى الخمسين للنكبة، كانت شيرين تغطي في مدن مختلفة بفلسطين الغضب المتصاعد ضد الاحتلال ووحشيته.
كانت شيرين حاضرة في أزمان الحرب والسلم عبر الجزيرة في الشاشات التي يتابعها العرب، حيث كانت تروي لهم قصص الغزو الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002، وبرز اسمها لدرجة أنه عندما فرضت القوات الإسرائيلية حظر التجول على الفلسطينيين في ذلك العام، كانوا يتجولون في سياراتهم ويقلدون أسلوب اختتامها لأي قصة أو لقطة حية، قائلين من خلال مكبر صوت 'ابقوا في الداخل.. هذه شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، رام الله'.
ومع تصاعد عنف الاحتلال الإسرائيلي، كانت شيرين حاضرة في كل خطوة لتسليط الضوء على الجرائم المرتكبة. وخلال تغطيتها وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، ورصدها عمليات القتل الجماعي وهدم المنازل -المستمر حتى يومنا هذا- عملت شيرين على نقل الصوت الفلسطيني للعالم.
أصبحت شيرين وجها مألوفا للجميع بهدوئها وحرفيتها وشجاعتها، فحتى عندما ألقيت عليها القنابل المسيلة للدموع، أو انهمر الرصاص حولها، كانت ثابتة ومدركة لما يحيط بها، فلم تكن تخوض مخاطر لا داعي لها.
كانت تعرف الضفة الغربية كما تعرف راحة يدها، وعملت في كل مناطقها، لقد أرادت فقط أن تكون صحفية تنقل قصص الفلسطينيين إلى العالم.
كانت تدرك بشكل خاص محنة السجناء السياسيين الفلسطينيين وآلام عائلاتهم، وعندما أطلق سراح السجناء كانت هناك أيضا، ليس فقط لشرح معاناتهم خلف القضبان، ولكن لتسليط الضوء على نيلهم حريتهم وجمع شملهم مع أحبائهم. كما تحدثت إلى أمهات انتظرن عقودا حتى أطلق سراح أبنائهن.
ولدت شيرين وترعرعت في القدس، وكانت مهتمة بشكل خاص بالصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون خلال محاولاتهم المتكررة للوصول إلى المدينة المقدسة التي تضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وعلى مدى سنوات، سلطت الضوء على صعوبات الوصول إلى هذه المواقع الإسلامية المقدسة، حيث يحاول الفلسطينيون عبور نقاط التفتيش العسكرية التي كانت بمثابة وسائل للإذلال.
على الصعيد العالمي، حرصت شيرين على شرح التداعيات الكبيرة للسياسة الخارجية على الفلسطينيين في وطنهم. لذلك، عندما قررت الولايات المتحدة إضافة خيار جعل إسرائيل مكان ولادة للذين ولدوا في القدس، كانت شيرين -وهي تحمل أيضا الجنسية الأميركية- حاضرة بقوة لشرح تداعيات ذلك على الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الأميركية.
لكن بالنسبة لشيرين، كان وجودها في فلسطين مصدرا لسعادتها على الرغم من كل الصعاب والآلام، وكان وجه فلسطين -بفرحها وألمها- شيئا جاهدت لتظهره للعالم. روت قصصا عن حياة الناس اليومية كما في الفيديو أدناه في هذه المناسبة الخاصة، حيث تزوج 430 فلسطينيا من ذوي الموارد المحدودة -ومعظمهم من اللاجئين- بشكل جماعي، بسبب ارتفاع التكاليف.
كان عام 2021 شاقًا جدا على الفلسطينيين، فخلال شهر رمضان المبارك، توافد الآلاف منهم على المسجد الأقصى. لكن القوات الإسرائيلية جعلت من شبه المستحيل عبور نقاط التفتيش المختلفة التي تفصل الضفة الغربية عن القدس الشرقية. تحدثت شيرين إلى فلسطينيين من الذين تأثروا بالإجراءات المتطرفة التي فرضتها السلطات الإسرائيلية مع تفشي جائحة كوفيد-19.
ورغم وجود بطاقات التطعيم والتصاريح العسكرية اللازمة، منعت القوات الإسرائيلية الآلاف من دخول المدينة المقدسة. لقد كانت شيرين منبرا للفلسطينيين الذين حُرِموا من إحدى المكاسب القليلة في الأراضي المحتلة، والتي تتمثل في الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه.
التقرير الأخير لشيرين أبو عاقلة
قدّمت شيرين قصتها الإخبارية الأخيرة. كان الأمر يتعلق بذكرى النكبة، أو الكارثة، وقد بُث التقرير في 15 مايو/أيار بمناسبة ذكرى الطرد الجماعي للفلسطينيين من وطنهم عام 1948. وعلى الرغم من غيابها، حكت شيرين -التي يطلق عليها اسم 'ابنة فلسطين'- مرة أخرى قصة تجريد الفلسطينيين من أرضهم وممتلكاتهم.
المطالبة يحقوقها
عقب مقتل الصحافية الفلسطينية، شكّلت إدارة الجزيرة طاقما من الخبراء القانونيين من بريطانيا لمتابعة القضية لدى المؤسسات الحقوقية الدولية، وزار الطاقم الأراضي الفلسطينية مرتين والتقى شهودا ثلاث مرات كما أجرى تحقيقا ميدانيا.
في ديسمبر الماضي ، رفعت قناة الجزيرة القطرية الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، مؤكّدةً أنها قُتلت عمدا برصاص القوات الإسرائيلية.
أقرّ الجيش الإسرائيلي في الخامس من سبتمبر بأن هناك 'احتمالا كبيرا' بأن يكون أحد جنوده أطلق النار على أبو عاقلة بعدما ظنّ خطأ أنها أحد المسلحين، لكن الدولة العبرية أعلنت أنها لن تتعاون مع أي تحقيق أجنبي.
ويقول مدير مكتب الجزيرة بالاراضي الفلسطينية المحتلة، وليد العمري 'القرار في أعلى المستويات في إدارة الجزيرة أن نتابع هذه القضية لتحقيق العدالة'.
ويقول 'بعد مرور عام، لم يتّخذ أي قرار، والشرعية الدولية عليها أن تثبت عدالتها'.
ويضيف 'لكننا سنقوم بكل ما علينا لمتابعة القضية... ما زلنا نضغط باتجاه أن يتحرك النائب العام في المحكمة الجنائية لكي تتخذ قرارا'.
وويشير الى خيارات تتمثل إما 'في الإعلان عن تشكيل لجنة دولية رسمية مستقلة وإما أن تعلن (المحكمة الجنائية الدولية) موقفا واضحا لتحقيق العدالة لشيرين'.
وينظم الفلسطينيون في ذكرى مقتل أبو عاقلة فعاليات إعلامية وثقافية لتخليد ذكراها.
وأقام مركز الفن الشعبي الفلسطيني الذي كانت أبو عاقلة عضوا في هيئته العامة مع عائلتها وأصدقائها، حفلة ثقافية إحياء لذكراها في قصر رام الله الثقافي.
وأكد أنطوان أبو عاقلة، شقيق الصحافية الراحلة، أن العائلة تنتظر تحقيق 'العدالة لشيرين'.
وقال 'خلال هذه السنة، مررنا بالعديد من المراحل والتجارب والتحديات لنحاول تحصيل حق شيرين، وتحقيق العدالة لشيرين، العدالة التي ينتظرها الجميع بعد اغتيال شيرين'.