ads
ads

لا صوت يعلو على صرخة الجوع.. كيف تحولت "الفاشر" إلى مدينة تنزف خبزاً ودماً؟

مآساة الجوع في الفاشر
مآساة الجوع في الفاشر
كتب : سها صلاح

تذكرنا دارفور اليوم بمقولة الشاعر' محمد عدوان' الذي قال: 'رأيتُ الذي خَرَج الصبحَ يبحثُ عن خبز أطفاله.. فقضى في الطريق اغتيالاً' وينطبق ذلك بشكل كبير على مدينة الفاشر، حيث تتكشف واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية قسوة في السودان، فالحرب التي طال أمدها لم تترك فقط دمارًا في الحجر والبشر، بل قطعت شريان الحياة الأساسي وهو الغذاء.

وفي مقدمة هذا الانهيار يأتي نقص الدقيق، الذي حوّل الخبز من طعام يومي بسيط إلى حلم بعيد المنال، في شوارع المدينة المحاصرة، تقف الأمهات في طوابير طويلة أمام المخابز، فيما تلهو الأطفال الجائعون بلا حول ولا قوة، خلف هذا المشهد الصامت، تتشكل ملامح مجاعة وشيكة تهدد حياة مئات الآلاف من المدنيين.

الوضع الإنساني في الفاشر

تعيش الفاشر منذ شهور في عزلة تامة تقريبًا عن بقية السودان، المعارك المستمرة جعلت الطرق الرئيسية مغلقة، والمخزون الغذائي ينفد بسرعة، والمساعدات الإنسانية تتعرض للنهب أو المنع، الأسواق شبه فارغة، والمخابز التي كانت تغذي آلاف الأسر توقفت عن العمل بسبب نقص الوقود والقمح.

الأسر النازحة التي لجأت إلى أطراف المدينة أصبحت تعتمد على وجبة واحدة في اليوم،وغالبًا تتكون من الذرة أو بقايا طحين ممزوج بالماء، ومع ارتفاع الأسعار وانعدام مصادر الدخل، لم تعد كثير من العائلات قادرة على شراء الخبز حتى لو توفر، أما المستشفيات فتعاني من نقص حاد في الدواء والمحاليل والأطباء، بعد اختطاف عدد من الكوادر الطبية أو اضطرارهم للمغادرة، وفقاً لصحيفة الجارديان البريطانية.

أسباب أزمة نقص الدقيق

وفي سيق متصل، نقلت وكالة رويترز عن محللين أن الأزمة الحالية ليست مجرد نتيجة للحصار العسكري، بل هي نتاج تداخل معقد بين العوامل الأمنية والاقتصادية والإنسانية.

فالطرق المؤدية إلى الفاشر مقطوعة منذ أشهر، ما جعل وصول شاحنات القمح والدقيق أمرًا شبه مستحيل، القوافل التي تحاول العبور تتعرض في كثير من الأحيان للنهب أو الاحتجاز، مما يدفع الموردين إلى التوقف عن المحاولة.

كما ان الوقود أصبح سلعة نادرة، ومع انقطاع الكهرباء، توقفت معظم المخابز عن العمل، بينما تحاول القلة الباقية الاعتماد على المولدات بقدرات محدودة جدًا.

واشار المحللين أن الاقتصاد المحلي انهار بالكامل، حيث فقدت العملة السودانية قيمتها، وارتفعت أسعار السلع الغذائية إلى أضعاف مضاعفة، وأصبح سعر جوال الدقيق يتجاوز قدرة أي أسرة على الشراء، مما حول الخبز إلى رفاهية، كما فقد السكان وسائل الزراعة المحلية* بسبب النزوح الجماعي واحتلال الأراضي الزراعية، ما جعل الاعتماد الكامل على الإمدادات الخارجية هو السبيل الوحيد للبقاء.

من نقص الدقيق إلى خطر المجاعة

عندما ينفد الدقيق، لا ينفد الغذاء فقط، بل تختفي آخر رموز الاستقرار في حياة الناس، في الفاشر بدأ كثير من الأهالي بطحن الحبوب الرديئة أو بقايا الذرة لإنتاج طحين بديل غير صالح للاستهلاك الآدمي، لكنه يبقي الأطفال على قيد الحياة مؤقتًا.

تقول التقارير المحلية إن معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال والنساء في ازدياد خطير،المستشفيات القليلة العاملة بالكاد تستقبل الحالات الحرجة، فيما يموت بعض المرضى في الطريق بسبب الجوع أو الأمراض المصاحبة.

إن استمرار هذه الأوضاع يعني أن المدينة تتجه بخطى ثابتة نحو 'مجاعة شاملة' فحين تتعطل الأسواق، وتنعدم الإمدادات، وتُشلّ المخابز، وتُغلق الطرق، يصبح الموت من الجوع حقيقة يومية لا مجرد احتمال.

المشهد الإنساني على الأرض

ووفقاً لتحليل برنامج الغذاء العالمي، فالأسواق القديمة التي كانت تعج بالحياة، لم يعد يُسمع سوى صمت الخوف، الأكشاك مغلقة، والباعة القلائل يبيعون ما تبقى من الحبوب بأسعار لا يقدر عليها أحد.

في الأحياء الشرقية من الفاشر، تحولت الطوابير أمام المخابز إلى طوابير للنجاة، الأطفال يجلسون على الأرض بانتظار قطعة خبز قد لا تأتي، بعض العائلات بدأت تطهو أوراق الشجر أو الحبوب المتعفنة لتسد رمقها.

وفي مخيمات النزوح، تتضاعف المعاناة، فالأمهات يحاولن تهدئة أطفالهن الجائعين، والرجال يغامرون بالخروج بحثًا عن القليل من الدقيق رغم الخطر.

الأطباء الذين بقوا داخل المدينة يصفون الوضع وفقاً لوكالة رويترز بأنه 'انهيار بطيء للحياة'، حيث يقول أحدهم: 'لم يعد الناس يموتون من الرصاص فقط، بل من الجوع الذي لا صوت له'.

ما الذي يمكن إنقاذه؟

طالبت الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية آمنة تسمح بدخول شاحنات الغذاء والدواء، بإشراف الأمم المتحدة أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كما يجب 'توفير الوقود' لتشغيل المخابز والمستشفيات.

ينبغي إطلاق 'برامج تغذية علاجية عاجلة' للأطفال والنساء الحوامل باستخدام الأغذية عالية القيمة الغذائية'، كذلك يجب 'حماية العاملين في المجال الإنساني والطبي'، وضمان عدم استهدافهم أثناء أداء مهامهم.

الفاشر اليوم تختصر مأساة السودان بأكمله مدينة أنهكها الحصار والجوع، لكنها ما زالت صامدة، في وجوه الأطفال التي أنهكها التعب، وفي أيدي الأمهات التي تعجن بقايا الطحين، تتجسد قصة شعب يقاتل من أجل البقاء، فهل ستصبح السودان مثل غزة أو أكثر بشاعة إنسانية؟

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً