في إحدى ليالي مارس الدافئة من عام 2015 بمحافظة أسيوط، جلس محمد عبدالمقصود كعادته على الأريكة التي يغلب عليها اللون الأبيض بغرفته، فور انتهائه من صلاة العشاء بالمسجد، يستعيد ذكريات طفولته، التي لا زالت عالقة بثنايا ذاكرته، رغم سنوات عمره الـ60، لتستوقفه اللحظات التي كان يقضيها بـ"الكتاتيب" لحفظ كتاب الله، الذي كان بين يديه في تلك اللحظة، فأخذ ينظر إلى آيات الله، التي طالما نصح ابنائه بالحفاظ على قرأتها يوميًا، لكنه رأى أن النصيحة ستتلاشي فور انتقاله لدار الأخرة، فأخذ يفكر بطريقة يدفع بها ابنائه وأحفاده الذين لم يتعدوا سنوات الطفولة، للمواظبة على قراءة القرآن.دقائق من التفكير قادته لتذكر كيف كان "سيدنا" في الكتاتيب يدفعه لحفظ كتاب الله عندما كان طفلًا، فيقول: "سيدنا كان بيخلينا نكتب على اللوحة الصفيح بالريشة والدواية، وكنا نكتب بالتشكيل واللي يغلط يضرب جامد"، لتقفز في ذهنه بتلك اللحظة فكرة كتابة القرآن الكريم بخط يده وتركه لأبنائه وأحفاده "حبيت أترك لأولادي وأحفادي حاجة قيمة يستفادوا منها بعد وفاتي.. الفلوس مش كل حاجة"- حسبما وصف في حديثه لـ"أهل مصر".لم تستغرق فكرة كتابة عبد المقصود القرآن بخط يده، وقتًا في التنفيذ، فأخذ يجوب المكتبات القريبة من منزله بمركز منفلوط بأسيوط، بحثًا عن دفاتر حرف "ز" 200 ورقة، (نظرًا لتحملها في الكتابة) التي وجدها سريعًا، وعاد بها إلى منزله "استخدمت كمان دستة أقلام فرنساوي ده غير مسطرة عشان أعمل هوامش بقلم أخضر وقلم أسود لعمل ترقيم الآيات.. أول ما بدأت في الكتابة أحفادي كانوا بيقعدوا حواليا يراجعوا القرآن ولا يمكن انسى إزاي زوجتي كانت سند ليا وبتشجعني هي وأولادي الأربعة من أول يوم بدأت أكتب القرآن فيه"- حسبما وصف. عامين مروا على اليوم الذي بدأ فيه عبد المقصود أولى حروف القرآن الكريم بالدفاتر، استطاع خلالهم أن يكتب كل حرف من حروف القرآن الكريم بالمصحف، فيقول: "أنا قدرت أكتب القرآن كامل في دفتر.. وأحلى لحظة إن الواحد يكتب لرب العزة ويخاطبه ودي بتكون لحظة جلالة محستش بيها غير لما كتبت القرآن.. أنا فرحان أني كتبت القرآن بإيدي وكان ليا الشرف أعمل كده".يتذكر عبد المقصود تركه لحفظ كتاب الله عندما وصل إلى مرحلة الثانوية العامة؛ لتمر أعوام الدراسة التي أعقبها العمل صراف في المجلس المحلي بمركز ومدينة منفلوط، وهو يحافظ على قراءة القرآن، فيروي تلك الفترة من حياته بقوله: "أنا كان ليا وقت محدد لقراءة القرآن الكريم يوميًا.. المصحف لازم ننظر ليه ونفتحه ونقرأ منه يوميًا ونتأمل كتاب الله ومعجزاته مهما كنا منشغلين".كانت فكرة كتابة القرآن الكريم قادرة على خطف "عبد المقصود" من دوامة الفراغ الذي حاوطه منذ انتهاء مدة عمله، فيقول ويده تلامس كتاب الله: "ابني محمد لما كان في كلية شريعة وقانون كنت بقعد أذاكر معاه عشان أخليه متفوق، ومن هنا بدأت استرجع حفظ القرآن الكريم اللي حفظت فيه ثلاثة أرباع سابقًا، ومذاكرتي مع ابني هي كمان سبب تاني في كتابة القرآن بخط أيدي، بعد ما طلعت معاش وحسيت أن حياتي مملة ولازم أعمل حاجة تزيدني إيمان قدام ربنا".كانت ساعة واحدة بعد صلاة العشاء، قادرة على دفع عبد المقصود للانتهاء من كتابة القرآن الكريم خلال ما يقرب الـ30 شهرًا، فيروي ذكرياته عن تلك الليالي: "فيه حرف بيتمد وفيه تشكيل فكان لازم أفتح القرآن قدامي وانقل عشان مغلطش في ولا حرف وأنا قوتي في اللغة العربية 60% لكن القرآن الكريم بيخلي الواحد على علم نوعًا ما باللغة، فكنت أخلص العشاء وأدخل اكتب".وفور انتهاء الرجل الستيني من كتابة القرآن الكريم بخط يده، عرض عليه المشايخ بالمسجد ترك القرآن المدون على الدفاتر في المسجد، ليستفاد به المصلين، لكنه رفض ذلك: "ناس قالت سيبه صدقة جارية للمسجد لكن أنا عايز احتفظ بيه لأولادي وهعمل واحد تاني للمسجد اللي بتردد عليه، لكن أنا الفترة الجاية بإذن الله هجيب مشايخ عظماء من الأزهر الشريف لمراجعة المصحف"."الشباب حاليًا منشغل بوسائل الاتصال الحديثة على عكس أيامنًا اللي مكنش فيها حاجة بتشغلنا إلا حفظ القرآن الكريم والقراءة" - كانت تلك الكلمات كفيلة بتوضيح وجهة نظر عبد المقصود حول سبب ابتعاد بعض الشباب عن حفظ كتاب الله.تجربة نقل القرآن الكريم من المصحف وإعادة كتابته بخط اليد، كانت كفيلة بتغيير مجرى حياة عبدالمقصود الذي تحول إلى رجل لا تفارق البسمة وجهه بعد أن كان يشعر بالضجر وضيق النفس من الحياة فور انقضاء سنوات العمل سريعًا، فيقول: "القرآن بيغير الحياة ويخليك فرحان وحاسس أنك بتعمل حاجة صح في حياتك وأنا ناوي الفترة الجاية أكتب نسخة تانية وثالثة، وهفضل أكتب لحد لما ربنا يأخد أمانته".لم يكن محمد عبد المقصود هو الوحيد الذي يشعر بالفرحة بعد انتهائه من كتابة القرآن الكريم، فنجله الأصغر، مؤمن عبد المقصود، لم يعد يفكر في شئ إلا تشجيع والده على كتابة كتاب الله من جديد، فيقول لـ"أهل مصر": "أول لما شوفنا والدي قاعد في أوضته بيكتب قرآن استغربنا وقعدنا حواليه نراجع القرآن، لكن لما لقيناه بيكتب كتير ومستمر كنا بنشجعه وفخورين بيه".لم يجد عبد المقصود مكانًا يحفظ فيه القرآن الكريم الذي خط كل كلمة فيه بيد إلا إحدى أدراج غرفته: "بابا حاليًا شايل المصحف في درج خاص بيه بغرفته، لكن لما بحتاج اقرأ فيه بدخل أقرأ واحفظه مكانه تاني، وهو عايز يكتب 4 كمان عشان يمنح كل واحد من ابنائه كتاب الله، ويكون خير حافظ لينا، والفترة الجاية هتواصل مع الأزهر الشريف عشان الاطلاع على المصحف".
كتب : منار محمد