ads
ads

الخرطوم: بصيص أمل بين الأنقاض وعودة خجولة للحياة

  السودان
السودان

بعد أكثر من عامين من الحرب المدمرة، بدأت العاصمة السودانية الخرطوم تشهد عودة تدريجية للنشاط التجاري والحياة اليومية. هذه المدينة، التي كانت رمزًا للحداثة والجمال، تقف اليوم على أنقاض الدمار، محاولةً النهوض من جديد. آلاف المباني المدمرة تقف شاهدة على ضراوة الحرب التي لم تشهدها العاصمة بهذا الحجم منذ الثورة المهدية وطرد المستعمر البريطاني أواخر القرن الثامن عشر.

آثار الحرب لا تزال حاضرة

لا تزال آثار الحرب واضحة في كل زاوية من زوايا المدينة. العديد من المعالم الشهيرة تعرضت للحرق أو التدمير الكلي أو الجزئي، ونُحتت ثقوب الرصاص على جدران الأبنية. المصارف والبنوك فقدت أبوابها ونوافذها، وتفوح منها رائحة الحريق والسخام. أما الطرق، فعلى الرغم من سوء حالتها، فقد غمرتها أمطار يونيو، بينما نجت بعضها جزئيًا.

عودة حذرة للنقل العام

في محطة المواصلات الرئيسية وسط الخرطوم، المعروفة بـ "موقف جاكسون"، عادت وسائل النقل العام لنقل المواطنين. ومع ذلك، لا يزال الوصول إلى "السوق العربية"، أحد أشهر أسواق وسط الخرطوم، يتطلب المشي على الأقدام أو استخدام السيارات الخاصة.

في مشهد مؤثر، كان رجل سبعيني يسير بتعب نحو السوق، وقد أرهقه المشي حتى سقطت عمامته من على رأسه وهو يمسح عرقه. قال إنه يريد تفقد متجره القديم وشراء بضائع بقيمة 200 ألف جنيه سوداني (ما يعادل 73 دولارًا أمريكيًا). وأشار إلى الخراب المحيط بمباني "واحة الخرطوم" (أكبر وأشهر المراكز التجارية في المدينة)، والأمل يشع من عينيه وهو يقول: "هذا الخراب سيعمر من جديد، المهم أن نتعلم من الدرس"، ثم صمت.

تجارة الذهب تبحث عن النهوض

قرب واحة الخرطوم المحترقة، تتحرك السيارات ويمشي الناس، لكن معظم المحال لم تفتح أبوابها بعد. يكتفي البعض بتفقد ممتلكاتهم، بينما يواصل آخرون أعمال صيانة سياراتهم، تحت لافتة لصيدلية "الفرجابي".

أما عمارة الذهب، التي كانت يومًا من أكبر مراكز تجارة الذهب في السودان، فلا يزال المبنى صامدًا رغم الحريق الذي طاله. وتجري حاليًا مناقشات بين والي الخرطوم وأصحاب الشركات لبحث سبل إعادة إنعاش تجارة الذهب في المنطقة.

ترميم المعالم التاريخية

لم تشفع لمسجد الخرطوم الكبير، وهو تحفة معمارية أثرية افتتحها الخديوي عباس باشا حلمي في عام 1901، مكانته التاريخية. فقد تعرض لخراب كبير هو والمنطقة المحيطة به. لكن أعمال الصيانة بدأت فيه، ومن المقرر أن يعود لاستقبال المصلين خلال أيام. قبل الحرب، كان المسجد يشهد إقبالًا كبيرًا من المصلين من جميع أنحاء الخرطوم لأداء الصلوات وسماع الدروس والمحاضرات الدينية.

عودة الحياة إلى الشوارع الرئيسية

على امتداد شارع القصر، أحد شوارع وسط الخرطوم الرئيسية، الذي سُمي تيمنًا بالقصر الجمهوري الذي ينتهي عند بوابته الجنوبية، والذي كان ساحة معارك كبيرة، عادت إليه الحركة. تُرى السيارات الخاصة تقطعه ذهابًا وإيابًا، خاصة عند تقاطعه مع شارع الجمهورية.

يُعد شارع القصر الأكثر نظافة مقارنة ببقية الشوارع، رغم تجمعات المياه الصغيرة على جانبيه. وعند تقاطعه مع شارع السيد عبد الرحمن، بدأت أعمال الصيانة في مبنى "البنك الأهلي" استعدادًا لاستئناف عمله.

أما شارع الحرية وسط الخرطوم من الناحية الغربية، حيث توجد متاجر الأجهزة الكهربائية، فقد عاد بعض التجار إلى محالهم، وبدأ النشاط فيه بالتعافي النسبي. وقد وعدتهم السلطات بتأمين المنطقة وإعفائهم من الرسوم الحكومية حتى نهاية العام. في المقابل، تعهد التجار بإنارة الشارع والمناطق المجاورة بالطاقة الشمسية لمنع اللصوص من التسلل ليلاً.

قام التجار بذبح الذبائح ووزعوا الحلوى والعصائر، وزينوا شارع الحرية بأعلام السودان، وصدحت مكبرات الصوت بالأغاني الوطنية، معلنة عودة الحياة إلى قلب الخرطوم التجاري.

عبّر بابكر حسن، تاجر أجهزة كهربائية منذ 40 عامًا، عن سعادته قائلاً: "هذه العودة تعني عودة الحياة للخرطوم، وأدعو جميع التجار للعودة، فالوضع مستقر الآن". أما التاجر صلاح سوركتي، فطالب بتخفيض الضرائب حتى يتمكن من بيع البضائع بأسعار معقولة، مشيرًا إلى أنه خسر أكثر من 200 مليون جنيه (73 ألف دولار أمريكي) خلال الحرب. وقال: "التاجر يجب ألا يتحسر على خسارته، بل عليه النهوض والبدء من جديد".

التاجران نادر جوليت والبشر حسين، وهما شقيقا لاعبين سابقين لكرة القدم بنادي المريخ، قالا إنهما فقدا كل شيء، لكنهما سيعودان فور انتهاء أعمال الصيانة. وأضافا: "أسوأ ما في الحرب ليس فقط الخسارة المادية، بل فقدان الأحبة الذين اعتدنا رؤيتهم كل صباح".

مؤسسات الدولة في طور العودة

تُعدّ وزارة الداخلية أكثر الوزارات انتشارًا في الخرطوم، وتشهد حركة نشطة لعناصرها. وتعكس عمليات الطلاء الجديدة لبعض مبانيها بوادر العودة والاستقرار. كما يُلاحظ بدء عمليات إعادة ترميم عدة مؤسسات حكومية أخرى في أنحاء الخرطوم. فـ المجلس التشريعي الخرطوم (البرلمان الولائي)، على الرغم من الدمار الذي لحق به، يعمل فيه بعض الموظفين دون كهرباء أو مياه، بينما يبدو مبنى هيئة الكهرباء الأخضر القريب من المكان محترقًا تمامًا.

أكد أحد الموظفين أن استعادة الخدمات باتت قريبة، ولكن "الأهم هو أن يستتب الأمن".

المقرن: بوابة الخرطوم إلى أم درمان

تشهد منطقة المقرن، التي سميت بملتقى النيلين الأبيض والأزرق، حركة سير نشطة بين الخرطوم وأم درمان. بالإضافة إلى كونها مدخلًا لأم درمان، تقع فيها مؤسسات كبيرة مثل رئاسة بنك السودان المركزي، ومباني شركة "زين" للاتصالات، وفنادق، ومتحف السودان وغيرها، ولم تخلُ هي أيضًا من الدمار والخراب.

الخرطوم تنهض ببطء ولكن بثقة

على الرغم من الخسائر الكبيرة والدمار الواسع، بدأت الخرطوم تنهض ببطء ولكن بثقة، مع عودة المحال والأسواق، وصيانة المساجد والمباني الحكومية. كلها إشارات إلى أن المدينة التي عاشت جراح الحرب، لا تزال قادرة على النهوض، بدعم أبنائها وعزيمتهم.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً