ads

عكاشة يخلط الدين بالسياسة والتاريخ .. الفتاوي الدينية وأثرها في المجتمع .. عصر سلاطين المماليك

الدكتور طلعت عكاشة
الدكتور طلعت عكاشة

في كتابه الموسوعي الفتاوى الدينية وأثرها في المجتمع، تناول المؤرخ والعالم الكبير الدكتور طلعت عكاشة دور الفتاوى كمصدر للتوجيه والمعرفة في المجتمع الإسلامي، وأهميتها الخاصة في عصر المماليك الذي شهد تحولات مختلفة. ووفقا للكتاب، وهو في الأصل رسالة حصل بها المؤلف على الدكتوراة تُعد الفتاوى الدينية على مر العصور الإسلامية بمثابة بوصلة معرفية ومرجعية أساسية للمسلمين في شتى مناحي حياتهم، فهي تمثل إجابات شرعية مستنبطة من مصادر التشريع الإسلامي (القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها) على استفسارات وتساؤلات الأفراد والجماعات حول مسائل دينهم ودنياهم. تتجاوز أهمية الفتاوى كونها مجرد إجابات قانونية، فهي تعمل كأداة للتنشئة الاجتماعية، وتساهم في ترسيخ القيم والأخلاق الإسلامية، وتوجه السلوك الفردي والجماعي بما يتوافق مع الشريعة. وفي عصر سلاطين المماليك الذي امتد قرابة ثلاثة قرون وشهد تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية متنوعة، اكتسبت الفتاوى أهمية خاصة ومضاعفة. فمع تعاقب السلاطين وتغير هياكل السلطة، وظهور تحديات اجتماعية واقتصادية جديدة، وتوسع نطاق التفاعلات الثقافية، برزت الحاجة الملحة إلى فتاوى واضحة ومستنيرة تواكب هذه التحولات وتقدم حلولًا شرعية للمستجدات. لعب الفقهاء والمفتون في هذه الفترة دورًا حيويًا في تفسير النصوص الشرعية وتطبيقها على الواقع المعيش، مساهمين بذلك في حفظ استقرار المجتمع وتماسكه، وتوجيه سلوكياته في ظل الظروف المتغيرة، وتقديم إطار شرعي للتعامل مع القضايا المستجدة التي لم تكن معهودة في العصور السابقة. لقد كانت الفتاوى بمثابة حلقة وصل بين الثوابت الشرعية ومتطلبات الحياة المتجددة، مما جعلها مصدرًا لا غنى عنه للتوجيه والمعرفة في المجتمع المملوكي.

وفي استعراضه للسياق التاريخي لدولة المماليك أشار المؤلف إلى أن دولة المماليك في مصر والشام (648-923 هـ / 1250-1517 م) شهدت سياقًا تاريخيًا واجتماعيًا فريدًا كان له تأثير عميق على إنتاج واستهلاك الفتاوى الدينية. فمن الناحية السياسية، تميزت هذه الفترة بتولي طبقة المماليك، وهم الجنود الأجانب المسترقون، مقاليد الحكم، مما أفرز نظامًا سياسيًا واجتماعيًا ذا طبيعة عسكرية وأجنبية في جوهره. هذا النظام، الذي شهد فترات من الاستقرار والقوة وأخرى من الضعف والاضطرابات الداخلية والصراعات الخارجية مع قوى مثل المغول والصليبيين والعثمانيين، خلق بيئة اجتماعية متغيرة باستمرار.

على الصعيد الاجتماعي، تميز المجتمع المملوكي بتنوعه العرقي والطبقي، حيث تواجد العرب والأتراك والشركس والأكراد وغيرهم، بالإضافة إلى التمايز بين طبقة المماليك الحاكمة وعامة السكان من التجار والحرفيين والفلاحين والعلماء. هذا التنوع والتمايز أفرز تحديات اجتماعية وقانونية متعددة استدعت تدخل الفقهاء وإصدار الفتاوى لتنظيم العلاقات والمعاملات بين هذه الفئات المختلفة. اقتصاديًا، ازدهرت التجارة في عهد المماليك، خاصة تجارة التوابل والسلع الشرقية التي تمر عبر أراضيهم، مما أدى إلى ظهور مسائل فقهية جديدة تتعلق بالعقود والشركات والمبادلات التجارية. ثقافيًا وعلميًا، شهدت بعض فترات حكم المماليك ازدهارًا للحياة العلمية والدينية، حيث نشط العلماء والفقهاء في التأليف والتدريس والإفتاء، بينما شهدت فترات أخرى تراجعًا نسبيًا. إن هذا السياق التاريخي والاجتماعي المعقد والمتغير باستمرار خلق طلبًا متزايدًا على الفتاوى الدينية لتوجيه الأفراد والمؤسسات في مختلف جوانب حياتهم، سواء كانت تتعلق بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، أو بالقضايا المستجدة التي فرضتها طبيعة الحكم المملوكي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة. وبالتالي، فإن فهم هذا السياق ضروري لفهم طبيعة الفتاوى التي صدرت في تلك الفترة وأثرها في المجتمع.

في إطار دراسة الفتاوى الدينية وأثرها في مجتمع المماليك، يكتسب فهم الأسس المنهجية لإنتاجها وتصنيفها أهمية قصوى. فقد استند فقهاء العصر المملوكي في استنباط فتاويهم إلى منظومة متكاملة من المصادر الشرعية المتفق عليها، والتي يأتي في مقدمتها القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع، والسنة النبوية الشريفة قولًا وفعلًا وتقريرًا، ثم الإجماع المستند إلى اتفاق المجتهدين من الأمة على حكم شرعي في مسألة معينة، والقياس الذي يتم من خلاله إلحاق واقعة جديدة بواقعة ورد فيها نص لحكمة التشريع المشتركة. بالإضافة إلى هذه الأصول الكلية، لجأ الفقهاء إلى مصادر أخرى معتبرة كالعرف السائد والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وذلك لتوسيع دائرة الاجتهاد واستيعاب المستجدات. وقد تنوعت الفتاوى الصادرة في عصر المماليك بشكل كبير بحسب الموضوعات التي تناولتها، حيث شملت فتاوى تفصيلية تتعلق بأركان الإسلام وشروط صحة العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وفتاوى أخرى تنظم مختلف أنواع المعاملات التجارية والمالية ك البيع والإيجار والرهن والوكالة والشركات، بالإضافة إلى فتاوى تتعلق بالأحوال الشخصية التي تنظم العلاقات الأسرية من زواج وطلاق ونسب وميراث. ولم يقتصر تأثير الفتاوى على هذه الجوانب فحسب، بل امتد ليشمل تنظيم عمل القضاء وتوجيه القضاة في إصدار الأحكام والفصل في المنازعات، فضلًا عن دورها في صياغة وتحديد معايير الأخلاق والسلوك العام في المجتمع، وتوجيه الأفراد نحو الفضائل والنهي عن الرذائل.

وعلى صعيد آخر، لم تكن العلاقة بين المؤسسة الدينية ممثلة في الفقهاء والمفتين وبين السلطة السياسية الممثلة في سلاطين المماليك علاقة بسيطة أو أحادية البعد. فقد شهدت هذه العلاقة صورًا من التعاون والتأييد المتبادل، حيث كان السلاطين يسعون غالبًا للحصول على دعم شرعي لسلطتهم وقراراتهم من خلال فتاوى العلماء، بينما كان الفقهاء يتمتعون بنفوذ اجتماعي وقانوني يمكنهم من خلاله التأثير في الرأي العام وربما تقييد بعض تصرفات السلطة إذا ما خالفت الشريعة في نظرهم. وبالتالي، فإن دراسة الفتاوى في عصر المماليك تكشف عن تفاعل معقد بين النص الشرعي والواقع الاجتماعي والسياسي، وعن دور الفقهاء كمصدر مهم للمعرفة والتوجيه وربما كقوة مؤثرة في موازين القوى داخل المجتمع وهو ما عرضه مؤلف الكتاب الدكتور طلعت عكاشة بامتياز.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
بث مباشر مباراة برشلونة وبوروسيا دورتموند (0-1) في دوري أبطال أوروبا (لحظة بلحظة) | استراحة