حددت وزارة الأوقاف، موضوع 'الحفاظ على الأوطان من صميم مقاصد الأديان'، عنوانا لخطبة الجمعة اليوم الثالثة من شهر شوال 1444 هـ، والأولى من شهر مايو 2023م، حيث تبدأ شعائر الجمعة الثالثة من شوال والتي ينقلها التليفزيون المصري من مسجد السيدة رقية بالقاهرة، بتلاوة قرآنية مباركة للقارئ الشيخ عبد الناصر حرك، وخطيبا الدكتور هشام عبد العزيز رئيس القطاع الديني بالأوقاف.
موضوع خطبة الجمعة اليوم بمساجد الجمهورية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، القائلِ في كتابهِ الكريمِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا ونبيَّنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
اللهّمّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ، وعلى آلهِ وصحبهِ، ومَن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وبعدُ: فقد امتنَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) على عبادهِ بنعمٍ جليلةٍ وآلاءٍ جسيمةٍ، مِن أهمِّهَا وأغلاهَا نعمةُ الوطنِ، حيثُ يعيشُ الناسُ في أمنٍ وأمانٍ، وسكنٍ وطمأنينةٍ، وحياةٍ كريمةٍ، بلا خوفٍ أو وجلٍ أو فزعٍ، لذلك كان حبُّ الوطنِ شعورًا تخفقُ لهُ القلوبُ، وحنينًا يملأُ الوجدانَ، فالوطنُ ليس مجردَ أرضٍ تسكنُ فيها، إنَّما هو كيانٌ عظيمٌ يتملكُنَا ويسكنُ فينَا، وقد رسخَ نبيُّنَا ﷺ هذه المعاني وأكدَهَا حينَ خاطبَ وطنَهُ مكةَ المكرمةَ، عندمَا أُخرِجَ منهَا قائلًا: (وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ).
والوطنُ أحدُ الكلياتِ الستِّ التي أحاطَهَا الشرعُ الحنيفُ بسياجاتٍ عظيمةٍ مِن الحفظِ والصيانةِ، فالحفاظُ على الأوطانِ مِن صميمِ مقاصدِ الأديانِ.. والدينُ لا يقوَى إلّا في ظلِّ وطنٍ قويٍّ يحميهِ ويحملُهُ، ولا يأمنُ الناسُ على دينِهِم ولا عقائدِهِم ما لم يأمنُوا في أوطانِهِم.
والحفاظُ على الأوطانِ يبدأُ مِن شعورِ المواطنِ بقدرِ نعمةِ الوطنِ ومسئوليتهِ عن أمنهِ واستقراراهِ، واستعدادهِ للتضحيةِ مِن أجلهِ وفدائهِ بالنفسِ والنفيسِ، فالوطنيةُ الحقيقيةُ عطاءٌ وفداءٌ وعزةٌ وكرامةٌ، وإباءٌ وشموخٌ، في حسنِ ولاءٍ وانتماءٍ، ووقوفٍ إلى جانبِ الأوطانِ في الشدةِ والرخاءِ، ومرابطةٍ على ثغورِهَا لتأمينِ حدودِهَا، وردعِ كلِّ معتدٍ، أو مَن تسولُ لهُ نفسُهُ الاعتداءَ عليهَا، أو النيلَ مِن مقدراتِهَا، وللهِ درُّ القائلِ: بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا. وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
الحفاظَ على نعمةِ الأمنِ لبُّ الحفاظِ على الأوطانِ واستقرارِهَا
ولا شكَّ أنَّ الحفاظَ على نعمةِ الأمنِ لبُّ الحفاظِ على الأوطانِ واستقرارِهَا، واستمرارِ تقدمِهَا وازدهارِهَا، فالأمنُ مِن أجلِّ النعمِ التي امتنَّ اللهُ (عزّ وجلّ) بها على عبادهِ، حيثُ يقولُ الحقُّ سبحانَهُ ممتَنًّا على قريشِ:
{ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، ويقولُ سبحانَهُ ممتَنًا على مكةَ وأهلِهَا: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، ويقولُ تعالَى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ{، ويقولُ نبيُّنَا ﷺ: « مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا »، فإذا وُجِدَ الأمنُ سلمتْ الأبدانُ وهنأتْ الأقواتُ، وإذا فُقِدَ الأمنُ تبعَهُ فَقْدُ كلِّ شيءٍ.
ومِن أهمِّ عواملِ الحفاظِ على الأوطانِ:
الأخذُ بأسبابِ القوةِ والعلمِ والعملِ، وجودةُ الإنتاجِ، والبناءُ والتعميرُ، فكلُّ مَا يؤدِّي إلى التعميرِ وقوةِ الأوطانِ فهو مِن صميمِ مقاصدِ الأديانِ، فالدينُ فنُّ صناعةِ الحياةِ والبناءِ، لا الموتُ ولا الهدمُ، حيثُ يقولُ الحقُّ سبحانَهُ:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، ويقولُ سبحانَهُ: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }، ويقولُ ﷺ: ( ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ)، ويقولُ ﷺ: ( إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)، ويقولُ الشاعرُ: بِالعِلمِ وَالمالِ يَبنِي الناسُ مُلكَهُمُ. لمَ يُبنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدِنَا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
إنّ الحفاظَ على الأوطانِ يتطلبُ التكاتفَ والتعاونَ وإعلاءَ المصلحةِ العامةِ، للرقيِّ بهَا، والحفاظِ على أمنِهَا وسلامِهَا ومقدراتِهَا ومكتسباتِهَا، بعيدًا عن كلِّ صورِ الفرديةِ والأنانيةِ والسلبيةِ، وقد ضربَ لنَا نبيُّنَا ﷺ مثلًا للأمةِ في تماسكِهَا وتكافلِهَا وتراحمِهَا، حيثُ يقولُ ﷺ: (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)، وقد قالُوا: ما استحقَّ أنْ يولدَ مَن عاشَ لنفسهِ.
فالأوطانُ مسئوليتُنَا جميعًا أمامَ اللهِ (عزّ وجلّ)، وأمامَ أنفسِنَا، والأوطانُ بأبنائِهَا جميعًا، وهي لهُم جميعًا، ولا يمكنُ أنْ تنهضَ، ببعضِهِم دونَ بعضٍ.. فكلُّنَا في سفينةٍ واحدةٍ، وعلينَا مجتمعينَ متضامنينَ أنْ نعملَ للنجاةِ بهَا، حيثُ يقولُ نبيُّنَا: (مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا)..اللهم احفظْ مصرَنَا، وارفعْ رايتَهَا في العالمين.