ثمة دلائل كثيرة على وجود إرادة سياسية وتوجه من قبل أجهزة الدولة على تصعيد التيارات والجماعات الصوفية ، لتكون بمثابة البديل الآمن لتيارات الإسلام السياسي، التي خاضت معها السلطة الحالية صراعا مريرا على مدار عشر سنوات ، انتهى بإزاحة كاملة لجماعة الاخوان المسلمين والجماعات السلفية من المشهد سياسيا وإعلاميا ودينيا وروحانيا.
في المقابل فان الدولة وجدت في التيار الصوفي برموزه المختلفة وخطابه الهادئ الوديع البعيد عن الاشتباك مع السلطة والسياسة والغارق في الذكر والروحانيات البديل الآمن والمنصاع تاريخيا للسلطة أيا كان من على رأسها.
وشهدت الفترة الأخيرة، ظهورا إعلاميا مكثفا لرموز التيارات الصوفية وعلى رأسهم الدكتور علي جمعة والدكتور بسري جبر، والتي بدأ خطابها يتردد كثيرا في وسائل الاعلام وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، وقد كانت مبادرة وزارة الاوقاف في جميع مساجد مصر بالصلاة الجهرية على النبي صلى الله عليه وسلم ، في عموم مساجد مصر ، عقب صلاة الجمعة الماضية ، خير دليل على وجود توجه لا تخطئه أعين المراقبين من تصعيد للخطاب الصوفي ودعمه من قبل أجهزة الدولة ، في وقت تعاني فيه البلاد من مشكلات اقتصادية ومعيشية ضخمة من جراء تضاعف معدلات التضخم وانهيار سعر الجنيه، وصعوبة توافر العملات الصعبة.
قوة الصوفية في مصر
يمثل الصوفية قوة عددية لا يُستهان بهم، حيث يمثلون ما لا يقل عن 10% من عدد سكان مصر، وقد يصل إلى 15% وربما أكثر، وتمثل الطرق الصوفية في مصر أحد أهم التيارات الإسلامية المعتدلة، التي اعتاد أي نظام سياسي التعويل عليها لمواجهة التطرف الديني، وهم دائمًا جاهزون ومستعدون لتنفيذ المهام المطلوبة منهم دون قيد أو شرط.
رغم أن بشائر الصوفية في مصر بدأت في القرنين الثالث والرابع من الهجرة، إلا إنها اتخذت شكلًا أكثر تنظيمًا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأصبحت أكثر انتشارًا في المجتمع المصري، ولم يعد الانضمام تحت لواء الصوفية قاصرًا على الفقراء، بل امتد في أحيان كثيرة إلى النخبة وأصحاب الكرافتات الشيك والثروات الضخمة والسيارات الفارهة؛ ربما كان من أسباب ذلك هو بقاء الصوفيين طوال الوقت في المنطقة الخضراء 'سياسيًا' والآمنة 'أمنيًا' والمطمئنة 'اقتصاديًا'.
مجالس ذكر بعيدة عن السياسة
لا تضم جلسات الصوفية الفقراء والمعدمين وذوي الملابس الرثة والدراويش والمجاذيب فحسب ، ولم يعد الخطاب الصوفي في هذه الجلسات خطابًا عدميًا، وإن حافظ في جوهره على الجانب السلوكي والأخلاقي المتمثل في: المقامات والأحوال. المقامات تشمل: التوبة والصبر والرضا واليقين والمحبة والتوكل، أما الأحوال فتشمل: القبض والبسط والفناء والهيبة، وهذه كلها فضائل وأحوال نفسية وأخلاقية بحتة. والقاسم المشترك في هذه الدروس والجلسات هو الابتعاد عن الإسقاطات السياسية أو الاشتباك مع الحكومة أو النظام السياسي أو ما يجلب على أصحابه عواقب وخيمة.
المجلس الأعلى للطرق الصوفية
تضم الطرق الصوفية في مصر أكثر من 77 طريقة أبرزها: الطريقة الرفاعية التي أسسها الإمام أحمد الرفاعي، والطريقة الشاذلية التي أقام صرحها أبو الحسن الشاذلي، والطريقة القنائية التي أنشأها عبد الرحيم القنائي بمحافظة قنا، والطريقة الدسوقية نسبة إلى الشيخ إبراهيم الدسوقي، ومسجده بكفر الشيخ من أبرز المزارات الدينية في مصر.
توصيف الهيكل التنظيمي للطرق الصوفية المصرية على المستوى العام في الوقت الراهن يأتي على قمته وفقًا للقانون رقم 118 لسنة 1976: المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذي يتكون من ستة عشر عضوًا، ويسيطر على جميع القرارات المتعلقة بجميع الطرق الصوفية المعترف بها وفقًا للقانون. وبحسب القانون..تجرى انتخابات عضوية هذا المجلس كل ثلاث سنوات لاختيار عشرة أعضاء بالانتخاب، بينما يتم اختيار الخمسة الباقين بالتعيين من قبل وزارات: التنمية المحلية والثقافة والأوقاف والداخلية والأزهر الشريف، وهم موزعون على النحو التالي:
- شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيسًا، ويتم تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية.
-عشرة أعضاء من مشايخ الطرق تختارهم الجمعية العمومية لمشايخ الطرق الصوفية في شتى أنحاء مصر.
-ممثل عن الأزهر، يختاره شيخ الأزهر الشريف.
-ممثل عن الداخلية، يختاره وزير الداخلية!
ممثل لوزارة التنمية المحلية، يختاره وزير التنمية المحلية.
ممثل عن وزارة الثقافة، يختاره وزير الثقافة.
-ممثل عن وزارة الأوقاف يختاره وزير الأوقاف.
مواقف رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية
مواقف وانحيازات عبدالهادي القصبي ، رئيس المجلس الاعلى للطرق الصوفية ، كاشفة وبوضح عن انحياز كامل وتأييد للجارف ددولة ، ومعادة شرسة لكافة التيارات الإسلامية المناوئة للسلطة، وهذا الانحياز من قبل القصبي لم يكن وليد اللحظة بل ظهر في عهد حسني مبارك ، حيث كانت الطرق الوفية من أكبر مؤيدي الرئيس الراحل والحزب الوطني المنحل ، ومع سقوط الاخوان ، وانتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي أيد القصبي بقوة ثورة 30 يونيو ، وكان ثمرة تأييد ان أصبح زعيم الاغلبية في مجلس النواب السابق ، وعاد ليكون رئيسا للجنة التضامن الاجتماعي بالمجلس الحالي.
موقف الصوفية من قوى الإسلام السياسي
تصف الطرق الصوفية جماعة الإخوان والسلفيين بأنهم 'وجهان لعُملة واحدة'، وانتهازيون واستغلاليون، على النقيض من الصوفيين، ويعترف شيخ الطريقة العزمية الشيخ محمد علاء الدين أبو العزائم، في الوقت نفسه بأن نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك استخدم الصوفيين سياسيًا مرات كثيرة، وبالفعل فقد كان التوظيف السياسي للصوفيين أقدم من نظام مبارك، حيث يتم توظيفهم منذ عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر والتاريخ لا ينسى.
في المقابل ينظر السلفيون إلى الصوفية نظرة سلبية، ويعتبرونهم مع الشيعة وجهين لعُملة واحدة، ويرون أن العقيدة الصوفية تتقاطع مع المذهب الشيعي في مسألة الغلو في آل البيت والصالحين والأولياء.
معركة مبادرة الصلاة على النبي وأفراح مساجد الأولياء
المبادرة التي أعنلتها وزارة الاوقاف الأسابيع الماضية بتخصيص الجمعة الفائتة لبيان فضائل الصلاة على النبي ثم تخصيص عدة دقائق للصلاة الجهرية على النبي بالصيغة الإبراهيمية ، أشعلت معكرة حامية الوطيس ولا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي بين ماشيخ السلفية ورموز الطرق الصوفية ، وبينما رفض السلفيون تلك الصلاة الجهرية الجماعية واعتبروها بدعة غير مقبولة ، ولا يجوز القيام بها، أيد الصوفيون تلك المباردة واختفوا بها احتفاءا واسعا ، بل واقاموا الافراح والاحتفالات في مساجد الأولياء والمقامات ووزعوا المأكولات والمشروبات ابتها بتلك المبادرة، كما استمر مسجد الحسين في عقد مجالس الصلاة على النبي قبل المباردة وبعدها.
وفي هذا الصدد قال القصبي : 'أنا استشعر اليوم فرحة المسلمين في جميع محافظات مصر بالصلاة على حضرة النبي. اليوم كنا نصلي مع وزير الأوقاف في مسجد الحسين والسيدات افترشن ساحة مولانا الإمام الحسين وامتلئ داخل المسجد بالشباب وبالرجال فرحا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم'.
الصوفيون بديل آمن وإلهاء عن المشكلات الاقتصادية
تمكين الصوفيين سياسيا وإعلاميا ، وتبني خطابهم وبعض طقوقسهم من قبل الدولة ، والاهتمام البالغ بمساجد الأولياء والمقامات وصيانتها وتجديدها ، يكشف بشكل جلي أن ثمة توجه ليس لآزاحة تيارات الإسلام فحسب ، بل ربما يمتد للتيار الأزهري المعارض لبعض توجهات الدولة فيما يخص قضايا الطلاق والأحوال الشخصية وغيرها، وعلى رأسه شيخ الأزهر الذي لا يبدو على وافق كامل مع الدولة.
في المقابل فان نشر الخطاب الصوفي بين عوام الناس والنخب يوفر بدلا ىمنا للسلطة ، غير خطاب غارق في الروحانيات والممارسات الطقوسية وبعيد عن الواقع ومؤيد بشكل كامل للسلطة ، ولا يشتبك مع السياسة من قريب او بعيد.
كذاك فإن الخطاب الصوفي يمثل هروباوتخفيفا من أي احتقانات يمكن تنشئ من المشكلات الاقتصادية والمجتمعية جراء غلاء المعيشة وارتفاعات الأسعار، وقد ذهب بعض المعارضين الى القول ان الدولة تهربت من مشاكلها او حاولة الهاء الناس عنها بمبادرة الصلاة على النبي، وبالفعل فان الصوفية لا تحمل ضغينة للسلطة مهما كانت ممارستها وتعلم اتباعها بالتبرك بالأولياء والتزام مجالس الذكر وممارسة الطقوس المتعارف عليها حل مشاكلهم والتغلب عليها.