سؤال تصاعد بقوة في الأوساط الإعلامية والعلمية عقب التوترات المتزايدة بين إيران وإسرائيل، وما صاحبها من تهديدات متبادلة واستهدافات محتملة لمنشآت نووية إيرانية. ومع أن مصر تقع على مسافة جغرافية بعيدة نسبياً عن إيران، إلا أن المخاوف من تأثير إشعاعي غير مباشر تبقى مطروحة، وتستحق تناولاً علمياً دقيقاً، وفق ما يؤكده عدد من خبراء البيئة والإشعاع، لذا حاولنا تناول الموضوع بشكل علمي بأرقام ودلائل.
كم تبعد المسافة بين مصر ومنشآت إيران النووية؟
المسافة بين مصر والمنشآت النووية الإيرانية، مثل مفاعل نطنز أو فوردو، تتراوح بين 2200 و2400 كيلومتر، وهي مسافة كبيرة تجعل من احتمال وصول الإشعاع المباشر إلى مصر أمرًا واقعي من الناحية الفيزيائية، إذ أن هذا النوع من الإشعاع يتلاشى في نطاقات محدودة لا تتعدى مئات الأمتار أو الكيلومترات من مصدر الانفجار، وفقاً للمركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى.
غير أن الخطر الحقيقي، كما يوضح خبراء الطاقة الذرية ، لا يكمن في الإشعاع اللحظي الناتج عن انفجار أو قصف مباشر، بل في ما يُعرف بالسحب المشعة أو الغبار النووي الذي قد ينتقل عبر الرياح إلى مسافات بعيدة.
لكن هذا الاحتمال، وإن كان نظريًا واردًا، يظل ضعيفًا في حالة مصر، إذ أن أنماط الرياح السائدة في المنطقة تتحرك من الغرب إلى الشرق في معظم فصول السنة، أي من مصر باتجاه إيران وليس العكس، وفقا لصحيفة 'ويندي' المتخصصة في حركة الرياح على المستويات العليا لحظيًا، بما في ذلك الشرق الأوسط.
ماذا عن انتقال السحب النووية؟
وفق تقديرات خبراء البيئة النووية، فإن انتقال سحب مشعة لمسافة تتجاوز 2000 كيلومتر يتطلب حدوث انفجار نووي واسع النطاق يؤدي إلى إطلاق كميات ضخمة من المواد المشعة في الغلاف الجوي، مع ارتفاع عمود الغبار إلى أكثر من 5 كيلومترات، بشرط أن تهب الرياح في اتجاه الغرب بشكل قوي ومستمر، وهي ظروف نادرة وغير معتادة في المنطقة.الرئيس السابق لهيئة الرقابة النووية والإشعاعية المصرية الدكتور مصطفى عزيز أكد في تصريح خاص لـ' أهل مصر ' أن تأثير أي حادث إشعاعي في إيران على مصر يحتاج إلى توافر شروط استثنائية في اتجاه وسرعة الرياح، بالإضافة إلى طبيعة التلوث الإشعاعي نفسه، مشيرًا إلى أن الوضع الحالي لا يستدعي القلق من تسرب إشعاعي يؤثر على الأراضي المصرية.
هل تمتلك مصر منظومة رصد إشعاعي؟
واضاف في تصريحاته أنه من الناحية التقنية، تمتلك مصر منظومة متكاملة للرصد الإشعاعي تشمل محطات قياس منتشرة في عدد من المحافظات مثل القاهرة ومطروح والإسكندرية، وهي قادرة على اكتشاف أي تغيرات في مستوى الإشعاع في الجو أو المياه في حال حدوث تلوث قادم من الخارج.
كما أن مصر عضو نشط في الشبكات الدولية لمراقبة الإشعاع، ما يتيح لها التفاعل المباشر مع أي تحذيرات تصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو هيئات الرصد الإقليمي.
اتجاهات الرياح تمنع الفرضية؟
تشير بيانات الأرصاد الجوية العالمية إلى أن اتجاهات الرياح في طبقات الجو العليا على ارتفاعات تتراوح بين 1500 و5000 متر، وهي المستويات التي تنتقل فيها السحب المشعة، تسير في منطقة الشرق الأوسط بنسبة تفوق 80% من الغرب إلى الشرق أو من الشمال إلى الجنوب، بحسب تقارير المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى ECMWF. ويعني ذلك أن احتمالية انتقال غبار نووي من وسط إيران إلى مصر تظل محدودة للغاية.
بلغة الأرقام، تبلغ سرعة الرياح على هذا الارتفاع في المتوسط بين 20 إلى 60 كيلومترًا في الساعة، وهو ما يستغرق نظريًا أكثر من 40 ساعة لوصول أي سحابة إشعاعية من مفاعل إيراني إلى المجال الجوي المصري، هذا إذا كانت الرياح معاكسة للاتجاه الطبيعي، وهو أمر نادر الحدوث، وفقا لبيان رسمي نشر في العام الماضي لخطة الطوارئ الإشعاعية المصرية بالتنسيق مع الدفاع المدني على بوابة مجلس الوزراء وقت التمرين القومي للتدريب على الاستجابة لحادث نووي في الضبعة.
ماذا لو حدث سيناريو استثنائي؟
في حال حدوث سيناريو استثنائي مثل انفجار مفاعل كبير غير محصن، بالتزامن مع موجة رياح شمالية شرقية قوية فإن بعض النظائر المشعة خفيفة الوزن مثل اليود-131 والسيزيوم-137 قد تنتقل لمسافات تتعدى الألفي كيلومتر.
ورغم أن تركيزها يكون قد انخفض بشكل كبير عند الوصول، إلا أن الاحتياطات البيئية تبقى ضرورية، لا سيما إذا استمر الانبعاث لعدة أيام، وفق تقرير لجنة الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذرية.
بروتوكولات مصر بشأن الإشعاع؟
لتفادي التأثيرات المحتملة، تعتمد بروتوكولات الاستجابة المصرية على عدة محاور:
أولاً، التنسيق الفوري مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) لتقييم مدى خطورة الانبعاث الإشعاعي، وتلقي بيانات الأقمار الصناعية بشأن حركة السحب المشعة.
ثانيًا، تفعيل محطات الرصد في المحافظات الحدودية وتكثيف القياسات كل ساعتين لرصد أي ارتفاع مفاجئ في معدل الجرعة الإشعاعية، والذي يجب ألا يتجاوز 0.1 ميكروسيفرت في الساعة في الظروف الطبيعية.
ماذا لو تم اكتشاف تلوث؟
وفي حال اكتشاف أي مؤشرات للتلوث وفق لتصريحات هيئة الطاقة الذرية المصرية، تصدر الهيئة العامة للرقابة النووية تحذيرات سريعة تشمل إغلاق مصادر المياه المكشوفة، ووقف تداول الخضروات الورقية مؤقتًا، وتحذير المواطنين من التعرض للهواء الطلق في مناطق محددة، كما يتم تجهيز الملاجئ المدرسية والمستشفيات بأقنعة واقية وأقراص اليود التي تمنع امتصاص الإشعاع من قبل الغدة الدرقية، وهي من الإجراءات التي تم اختبارها تدريبيًا في خطة الطوارئ النووية عام 2021 في منطقة الضبعة.
هذه الإجراءات، وإن كانت معدة كخط دفاع احترازي، تعكس جاهزية الدولة للتعامل مع أسوأ السيناريوهات المحتملة، مع التأكيد من قبل الخبراء على أن هذا الخطر يبقى في خانة 'الاحتمال النظري' أكثر من كونه تهديدًا وشيكًا.