في ضوء هدوء الصحراء وامام الهرم الكبير، يقف مشروع ضخم على مشارف القاهرة، في موقع يرتفع نحو آفاق المستقبل ويغوص عميقاً في ماضي الحضارة الفرعونية، إنه المتحف المصري الكبير، المبنى الذي طال انتظاره، والذي لم يعد مجرد مكان عرض للآثار، بل إعلانًا بأن مصر 'تضيء من جديد'.
منذ بدايته، ارتبط مشروع المتحف بأكثر من مجرد ترميم وحفظ للآثار، بل أن تكون مصر المركز الذي يستعيد فيه الماضي مكانه ويحول إليه زوار العالم من مختلف القارات ومع تأخر امتد لعقود منذ أن كان فكرة للرئيس الراحل حسني مبارك بسبب أزمات مالية وسياسية وجائحة عالمية، جاء اليوم الذي تكشف فيه البلاد عن ما وصفته الصحف العالمية بأنه أكبر متحف مكرس لحضارة واحدة في العالم؟
موقع هام بين أهرامات الجيزة
على بُعد خطوات من أهرامات الجيزة، وعلى أرض اختيرت بعناية لجعل المتحف جسرًا بين القدماء والمستقبل، يقف المبنى شاهداً على التلاقي بين العمارة المعاصرة والرمزية التاريخية، هذا ما جاء في صحيفة Wallpaper، التي أن تصميم المتحف يعكس خطوطًا تُشير إلى الأهرامات وتلميحًا إلى النيل، مع جدران واجهة تفصل بين الداخل والخارج بطريقة تجعل الزائر يشعر بأنه يدخل إلى عالم مختلف.
ولعل هذا الموقع ليس مجرد اختيار جغرافي، بل رسالة أن مصر تريد أن تُعيد تعريف موقعها كمحور ثقافي وتاريخي وسياحي دولي.

المتحف كأداة لاستثمار ضخم
لم يكن المشروع مجرد استثمار ثقافي بل محطة استراتيجية في خطة مصرية أشمل لإعادة تنشيط الاقتصاد والسياحة، وفقًا لوكالة Associated Press، فإن الحكومة تتوقع أن يستقبل المتحف من 15 ألف لـ20 ألف زائر يوميًا، ما يعني تدفق عملة صعبة وخلق فرص عمل محليةداخل المتحف، تُعرض أكثر من 50 ألف قطعة أثرية، وبعض المصادر تشير إلى ما يزيد على 100 ألف تشمل كنوزاً لم تُعرض من قبل، وأكثرُها إثارةً مجموعة الملك 'توت عنخ آمون'، لأول مرة تُعرض في مكان واحد منذ اكتشاف مقبرته عام 1922.
كما أن الممرات الضخمة والمداخل العالية والأجهزة الحديثة للتجربة البصرية تشكّل مزيجاً بين ما هو علمي وتقني وبين ما هو شعوري وتجربة ذهنية، فحين يصعد الزائر على السلم الكبير داخل المتحف ويرى أمامه تمثالاً ضخماً للملك رمسيس الثاني مشيراً إلى الأهرامات في الأفق، يكون قد قطع مسافة زمنية من آلاف السنين.

ماذا حدث في الكواليس لخروج المتحف بهذا الشكل؟
الطريق إلى هذا الافتتاح لم يكن سهلاً، فقد تعرض المشروع لتأخيرات عدة، بسبب الأزمة المالية العالمية، وثورات الربيع العربي، وجائحة كورونا، وأخيرًا التوترات الإقليمية، صحيفة Condé Nast Traveler Middle East تشير إلى أن الافتتاح الكامل تأجل إلى الربع الأخير من عام 2025.
هذه التأخيرات أثارت انتقادات دولية وكذلك تساؤلات حول ما إذا كان المشروع سينجح في تحقيق طموحه، لكن الحكومة ترى أنه استثمار طويل الأمد، وأن الفائدة الحقيقية ستظهر بعد سنوات من التشغيل الكامل.
على المستوى المحلي، يُنظر إلى المتحف على أنه 'فرصة ثانية' لمصر بعد سنوات من تدهور السياحة وتراجع الإيرادات والاضطرابات السياسية.
أما على المستوى العالمي، فالمتابعون يرون أن المشروع يعكس توجهًا أكبر للعالم المتحف ليس فقط ذاكراً للماضي، بل منصة للتبادل الثقافي، للتكنولوجيا، للبحث العلمي، ولإشراك الجمهور في تجربة التذوق التاريخي، وفي وقت تحتدم فيه المنافسة بين الدول على أن تكون محوراً سياحياً أو حضارياً، فإن مصر تدخل السباق بقوة جديدة.

المتحف كجسر دبلوماسي وثقافي
ومع أن المتحف يبدو للوهلة الأولى جسراً إلى التاريخ، إلا أن أهميته الحقيقية تكمن في دوره كمنصة للمستقبل. فبالجيل الجديد من المصممين والمؤرخين والمهندسين الذين يعملون داخله، تتحول مصر إلى مختبر لإعادة تعريف معنى أن يمتلك بلدٌ تراثًا بشريًا بهذا العمق. هنا، لا تُعرض مقتنيات كمعادن وحجارة ساكنة، بل كقصص تُروى بوسائط رقمية، وتجارب تفاعلية، ومساحات تعليمية مخصصة للأطفال والطلاب والباحثين.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه التكنولوجيا لطمس الحدود بين الذاكرة والواقع الافتراضي، يأتي المتحف المصري الكبير بوصفه تجربة تعيد للإنسان صلته
يتجاوز 'المتحف المصري الكبير' دوره كصرح ثقافي إلى كونه مشروعًا دبلوماسيًا بامتياز.