في وقتٍ ينشغل فيه العالم بقراءة خرائط الحروب في إفريقيا، تكشف صحيفة صحيفة La Silla Vacía الكولومبية، ملف غامض وممتدٌ عبر ثلاث قارات عن واحدة من أخطر شبكات المرتزقة في العصر الحديث، شبكة تبدأ من أحزمة الفقر في كولومبيا، وتمّر عبر مراكز التدريب في الخليج والقرن الإفريقي، قبل أن تنتهي في قلب الصراع السوداني الدموي، هذا التحقيق يكشف، بالأسماء والوثائق، كيف تحوّل مئات الجنود الكولومبيين السابقين إلى 'مقاتلين للإيجار' في حرب السودان، وكيف تحركت دول وشركات أمنية عبر قارات لتغذية واحدة من أعقد الحروب في المنطقة.
ففي إحدى أكثر حلقات النزاع السوداني تعقيداً، تتزايد الأدلة على تورّط مرتزقة كولومبيين في القتال إلى جانب قوات 'الدعم السريع'، ضمن شبكة تجنيد عابرة للحدود تمتد بين كولومبيا والإمارات مروراً بالصومال وليبيا، هؤلاء المقاتلون، الذين قطعوا آلاف الكيلومترات من أمريكا اللاتينية، وجدوا أنفسهم في ساحة حرب لا يعرفون عنها شيئاً سوى العائد المالي الكبير.
تزايدت الإشارات على وجود المرتزقة الكولومبيين خلال معارك 'الفاشر'، حيث تظهر شهادات ووثائق وصور وفيديوهات منشورة عبر منصات مفتوحة المصدر ومصادر رسمية، تشير إلى مشاركة نشطة لهؤلاء المقاتلين في العمليات الميدانية، بما في ذلك تشغيل الطائرات المسيّرة، والمشاركة في الهجمات المباشرة، وتصميم خطط الاقتحام.
وتكشف الأدلة المجمعة أن الدور الإماراتي ليس الوحيد في هذا الملف، إذ تتداخل خطوط التمويل والتدريب والنقل عبر شبكةٍ معقدة تشمل أطرافاً أخرى ساهمت في تسهيل تدفق المرتزقة إلى السودان.
تجنيد عبر عقود وهمية
تؤكد وثيقة رسمية قدمتها الخرطوم إلى مجلس الأمن في سبتمبر 2025 أن عمليات التعاقد مع المرتزقة الكولومبيين جرت عبر 'خداع مهني'، حيث تم إيهام المقاتلين بأنهم ذاهبون للعمل في وظائف أمنية في الإمارات، قبل نقلهم على الفور إلى السودان للمشاركة في القتال.
ويشير تقرير 'الجريدة الرسمية للكونجرس الكولومبي' إلى أن بعض المقاتلين تلقوا وعوداً بوظائف حراسة في ليبيا، لكنهم وجدوا أنفسهم في خطوط المواجهة داخل السودان.

تتولى شركة 'A4SI' الكولومبية، المتخصصة في استقطاب العسكريين السابقين، الجانب الأول من عملية التجنيد، عبر اختبارات وأسئلة تركز تحديداً على المهارات القتالية، من الرتب العسكرية إلى الخبرات في بيئات النزاعات. وتعرض الشركة في موقعها شواغر تشمل تشغيل الطائرات بدون طيار، والحماية المسلحة، والأمن السيبراني، برواتب تتراوح بين 2500 و4000 دولار.



أما الطرف الثاني في سلسلة التجنيد فتقوده شركة الأمن الإماراتية GSSG، التي تُعرّف نفسها بأنها المزود الوحيد للخدمات الأمنية المسلحة لحكومة الإمارات، وتتهمها الخرطوم بالإشراف على نقل المقاتلين الكولومبيين باتجاه السودان عبر مراحل متعددة.
رحلة معقدة عبر 4 دول
وفق الوثائق السودانية وشهادات مقاتلين كولومبيين، تمر رحلة المرتزقة عبر أربع مراحل:السفر من كولومبيا إلى الإمارات بعد توقيع العقود.
التدريب في الإمارات على أساليب قتالية متقدمة.
الانتقال إلى بوصاصو في بونتلاند بالصومال، ثم إلى بنغازي في ليبيا.
العبور عبر الصحراء إلى السودان عبر تشاد.
وتشير الخرطوم إلى أن أول دفعة تضم 172 مرتزقاً وصلت إلى الفاشر في نوفمبر 2024، بينما بلغ إجمالي من تم تجنيدهم بين 350 و380 مقاتلاً.

مقاتلون بخبرة طويلة
ينحدر المرتزقة الكولومبيون من الجيش الكولومبي، وغالباً ما يكونون في الثلاثينيات والأربعينيات، ولديهم خبرات تراكمت خلال الحرب الأهلية الكولومبية الممتدة لـ52 عاماً. ويعرف هؤلاء بلقب “ذئاب الصحراء”، ويحيطون تحركاتهم بالسرية، خصوصاً بعد توتر العلاقات بين الخرطوم وبوغوتا، ما دفع الأخيرة إلى تقديم اعتذار رسمي.
تشير وثائق سودانية إلى أن المرتزقة تورطوا في تدريب أطفال مجندين تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاماً، كما اتهمتهم الخرطوم باستخدام أسلحة محظورة مثل الفوسفور الأبيض، وهي اتهامات أرفقتها بصور ومواد ميدانية.
كما يظهر فيديو بثته وسائل إعلام كولومبية مقاتلين يطلقون النيران داخل السودان، وآخرين ينفذون عمليات قصف.
امتداد عالمي لدور المرتزقة الكولومبيين
لم تكن الحرب السودانية أول مرة يظهر فيها المرتزقة الكولومبيون في صراعات المنطقة؛ فقد سبق أن شاركوا في اليمن والعراق، كما تورطت مجموعات منهم في اغتيال رئيس هايتي عام 2021. وتعد كولومبيا اليوم أحد أكبر مصادر المرتزقة في العالم.ينص القانون الدولي على تجريم تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم، وفق الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة (1989)، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2011. وتشدد الاتفاقية على ضرورة محاكمة أو تسليم المتورطين، سواء كانوا أفراداً أو جهات أو حكومات.