ads

كاليفورنيا في عين العاصفة.. صدام دستوري غير مسبوق يهدد الوحدة الفيدرالية الأميركية

  كاليفورنيا
كاليفورنيا

تعيش ولاية كاليفورنيا الأمريكية واحدة من أكثر فتراتها اضطرابًا منذ عقود، حيث تتصاعد التوترات بشكل حاد بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والمسؤولين الديمقراطيين في الولاية. لم تعد الأزمة مقتصرة على خلافات سياسية حول قضايا الهجرة والاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت شوارع لوس أنجلوس منذ السادس من يونيو الجاري، بل تحولت إلى صدام دستوري خطير بين السلطات الفيدرالية وحكومة الولاية، يُعيد طرح أسئلة جوهرية حول توزيع السلطة في الولايات المتحدة: من يملك القرار النهائي؟ وهل يحق للرئيس فرض إرادته على ولاية دون موافقتها؟ وما هي حدود استخدام القوة ضد المواطنين الأميركيين في حالات كهذه؟

نظام فيدرالي تحت الاختبار: من يحكم من؟

تأسست الولايات المتحدة على نظام فيدرالي يمنح كل ولاية سيادة دستورية واسعة، تتمتع بموجبها بحكومتها الخاصة وبرلمانها وقوانينها. وفقًا للدستور الأميركي، تتولى الولايات مسؤوليات حيوية مثل إدارة الشرطة والتعليم والانتخابات وبعض جوانب سياسة الهجرة. في المقابل، تركز الحكومة الفيدرالية على السياسة الخارجية والأمن القومي وتنظيم التجارة بين الولايات ومع الدول الأخرى.

هذا التوازن الدقيق بين السلطات الفيدرالية والمحلية حساس للغاية، وكثيرًا ما تتخلله توترات سياسية أو قانونية. إلا أنه نادرًا ما يصل إلى حد التهديد الصريح باعتقال حاكم ولاية، كما حدث يوم الاثنين عندما أعلن الرئيس ترامب دعمه 'لاعتقال جافين نيوسوم'، حاكم كاليفورنيا، على خلفية اعتراضه على إجراءات الهجرة الفيدرالية. وصف نيوسوم هذا التهديد بأنه 'خطوة لا لبس فيها نحو الاستبداد'، وهو تصريح يعكس مدى خطورة الموقف في بلد يفتخر بمؤسساته الدستورية.

'إرسال قوات إلى ولاية دون موافقتها': تجاوز للخطوط الحمراء؟

يسمح 'قانون التمرد' (Insurrection Act) الصادر عام 1807 للرئيس الأميركي بنشر القوات الفيدرالية داخل الأراضي الأميركية لإنفاذ القوانين أو قمع تمرد، ولكن ضمن قيود صارمة. يشترط القانون أن يكون ذلك بناءً على طلب من الولاية المعنية، أو إذا عجزت الولاية أو تقاعست عن إنفاذ القانون تمامًا.

في حالة كاليفورنيا، لم تطلب الولاية أي تدخل، بل عارضته صراحة. يصر حاكمها جافين نيوسوم على أن نشر الحرس الوطني دون موافقة الولاية يشكل انتهاكًا واضحًا للدستور، بل وهدد بمقاضاة إدارة ترامب بتهمة 'الاستيلاء غير القانوني على سلطات الولاية'. يؤكد نيوسوم أن الحفاظ على النظام الداخلي هو مسؤولية سلطات الولاية، ما لم تُعلن حالة طوارئ وطنية.

يرى مايكل ميلر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، أن هناك 'حدودًا حقيقية لما يمكن أن يفعله حكام الولايات ورؤساء البلديات لعرقلة الإجراءات الفيدرالية، ويبدو أن ترامب عازم على جعل كاليفورنيا عبرة لغيرها'. ومع ذلك، لا يتوقع ميلر أن تتمكن المحاكم من حسم الخلاف القانوني قريبًا، مشيرًا إلى أن 'هذه العملية بطيئة، ويبدو من غير المرجح أن تُكبح جماح الحكومة الفيدرالية حقًا'.

حرية التعبير والتعديل الأول: تساؤلات حول حق التظاهر

تحمي التعديلات الدستورية الأميركية، وخاصة التعديل الأول، حرية التعبير وحق التظاهر السلمي وحرية الصحافة. لذلك، فإن وصف ترامب للمحتجين بأنهم 'غوغاء متمردون'، وتبريره لاستخدام القوة ضدهم، يثير جدلًا دستوريًا عميقًا يتجاوز الخلاف السياسي.

يعبر العديد من الأميركيين عن قلقهم من أن يتم التعامل مع التظاهرات السلمية على أنها 'تمرد مسلح'، مما يبرر انتشار القوات والتشدد في التعامل مع المحتجين. يثير هذا الأمر سؤالًا أكبر حول ما إذا كان التظاهر ضد قرارات الرئيس يمكن أن يصبح جريمة.

يشير بنيامين جونزاليس أوبراين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية سان دييغو، إلى أن الولايات المتحدة شهدت احتجاجات مستمرة على سياسة الهجرة على مدى العقود القليلة الماضية، مدفوعة جزئيًا بعجز النواب المنتخبين عن إقرار أي نوع من الإصلاحات الشاملة للهجرة. يضيف أوبراين: 'ما شهدناه من الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء منذ ثمانينيات القرن الماضي، هو إجراءات عقابية متزايدة وفرض عقوبات تهدف إلى ردع الهجرة غير الموثقة إلى الولايات المتحدة'.

مبدأ الحصانة للسلطات المنتخبة: سابقة خطيرة؟

التصريح بدعم اعتقال حاكم ولاية أو عمدة مدينة منتخبين، كما قال ترامب عن نيوسوم وكارين باس، يعتبره البعض تجاوزًا غير مسبوق في السياق الأميركي. لا يسمح الدستور باعتقال المسؤولين المنتخبين إلا في حالات جنائية موثقة ومعروضة أمام القضاء. أما التهديد السياسي باعتقالهم فقط لمعارضتهم، فيُعتبر قانونيًا تهديدًا لمبدأ الفصل بين السلطات، وهو أحد أركان الديمقراطية الأميركية.

يقلق هذا التوجه حتى بعض أعضاء الكونغرس، الذين يرون في هذه الخطوات محاولة لتطويع السلطات المحلية عبر التهديد الفيدرالي، وهو ما قد يخلق سابقة دستورية خطيرة تهدد استقلالية الولايات.

أزمة توازن سلطات: المحكمة العليا قد تحسم النزاع

يفتح ما يجري في كاليفورنيا الباب أمام سيناريو غير مألوف في التاريخ الأميركي الحديث: مواجهة مباشرة بين حكومة ولاية والحكومة الفيدرالية، تتعلق بمن له الكلمة الأخيرة في قضايا الأمن والهجرة والاحتجاج. هذه الأزمة تطرح تساؤلات جدية حول صحة مبدأ 'حكم القانون' في لحظة سياسية تشهد استقطابًا شديدًا.

إذا تمادت الحكومة الفيدرالية في فرض سلطتها بالقوة، فقد يؤدي ذلك إلى معارك قانونية حاسمة أمام المحكمة العليا، بل وربما يمهد الطريق لإعادة تعريف العلاقة بين العاصمة والولايات.

خلاف دستوري مفتوح: كاليفورنيا تتجه للمقاضاة

مع احتدام الأزمة، دخلت كاليفورنيا في نزاع قانوني ضد إدارة ترامب بشأن نشر الحرس الوطني، على أساس أن إجراءاته في هذا المجال تشكل خرقًا للدستور وتعديًا على سيادة الولاية. يرى مراقبون أن ما يجري يختبر حدود السلطة الفيدرالية مقابل الحكم المحلي، في لحظة سياسية تعيد إلى الأذهان أزمات مشابهة مثل أعمال الشغب عام 1992 في لوس أنجلوس، حين استُخدم قانون التمرد لنشر الجيش الفيدرالي.

ورغم أن إدارة ترامب لم تُفعل رسميًا قانون التمرد لعام 1807 حتى الآن، فإن تصريحات مسؤولين عسكريين بشأن جاهزية القوات 'خلال 24 ساعة' أثارت مخاوف من تصعيد غير مسبوق. يمنح هذا القانون الرئيس الحق في نشر القوات المسلحة لفرض النظام داخليًا، وهو ما يُعتبر في الديمقراطية الأميركية ملاذًا أخيرًا لا يُستخدم إلا في حالات الطوارئ القصوى.

كيف بدأت الاحتجاجات؟

في مساء الجمعة، 6 يونيو، نفذت وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE) مداهمات مكثفة في أحياء عدة بمدينة لوس أنجلوس، أسفرت عن اعتقال ما لا يقل عن 44 شخصًا بتهم تتعلق بانتهاك قوانين الهجرة. ما بدأ كعملية أمنية اتحادية سرعان ما تحول إلى احتجاجات شعبية واسعة، شابتها أعمال عنف واشتباكات مع الشرطة، خصوصًا في منطقتي باراماونت ووسط المدينة، حيث ردد المتظاهرون هتافات منددة بالحملة على المهاجرين، ورفع بعضهم أعلام المكسيك.

ردت شرطة لوس أنجلوس بإعلان وسط المدينة منطقة محظورة على التجمعات، واعتقلت عشرات الأشخاص الذين رفضوا الانصياع لأوامر عدم التجمع. وقالت الشرطة في بيان إن بعض المتظاهرين استخدموا العنف وألقوا الزجاجات والحجارة على عناصر الشرطة.

تتجه الأنظار الآن إلى المحكمة العليا، التي قد يكون لها الكلمة الفصل في هذا الصدام الدستوري الذي يهدد بتقويض أسس الفيدرالية الأميركية وإعادة تعريف العلاقة بين السلطات المحلية والمركزية.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً