بعد أسابيع من سيطرة المعارضة السورية على دمشق، تكشف رويترز أن القيادة السورية الجديدة تعمل سرًا على إعادة هيكلة اقتصاد البلاد المثقل بالفساد والعقوبات، تحت إشراف مجموعة من الشخصيات التي لا تزال هوياتها مخفية تحت أسماء مستعارة. وتقدر أصول اللجنة التي تقود هذه المهمة بأكثر من 1.6 مليار دولار، تم جمعها من مصادرة أموال وحصص في شركات تابعة لتكتلات كانت تسيطر عليها مقربون من نظام الأسد السابق.
ويقود هذه العملية الشقيق الأكبر للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، حازم الشرع، بينما يرأس اللجنة السرية شخص يدعى "أبو مريم الأسترالي"، والذي كشفت رويترز أن اسمه الحقيقي هو إبراهيم سكرية، وهو مواطن أسترالي من أصل لبناني مدرج على قائمة بلاده للأفراد الخاضعين لعقوبات بتهم تمويل الإرهاب.
عملية سرية وخيارات محدودة
لم تعلن الحكومة السورية الجديدة عن وجود هذه اللجنة أو عملها للرأي العام، على الرغم من أن مهمتها قد تؤثر على حياة جميع السوريين. ووفقًا لمصادر مطلعة، فإن حجم الفساد في عهد الأسد ترك خيارات محدودة للإصلاح الاقتصادي. وقد قررت اللجنة التفاوض لاستعادة الأموال التي تحتاجها البلاد بشدة وفرض سيطرتها على الأنشطة الاقتصادية الأساسية، بدلًا من مقاضاة رجال الأعمال المتورطين في الكسب غير المشروع أو مصادرة شركاتهم بشكل مباشر.
واستند تحقيق رويترز إلى مقابلات مع أكثر من 100 من رجال الأعمال والوسطاء والسياسيين والدبلوماسيين والباحثين، بالإضافة إلى وثائق تتضمن سجلات مالية ورسائل بريد إلكتروني ومحاضر اجتماعات وتسجيل شركات جديدة.
تكديس السلطة الاقتصادية
على مدار سبعة أشهر، أجرت اللجنة مفاوضات مع أغنى رجال الأعمال السوريين، بعضهم يخضع لعقوبات أميركية. كما أحرزت تقدمًا في الاستحواذ على مجموعة من الشركات التي كانت تدار من داخل قصر الأسد. وقد أثارت هذه المنهجية، التي تتضمن إشراك أقارب الرئيس وشخصيات غامضة، قلق عدد من رجال الأعمال والدبلوماسيين والمحللين الذين يخشون من استبدال نخبة بأخرى في السلطة.
وأعلن الرئيس الشرع في 9 يوليو عن إنشاء صندوق سيادي تابع للرئاسة، يشرف عليه شقيقه حازم الشرع. كما كشف عن إنشاء صندوق تنمية برئاسة أحد المقربين من حازم. وقد توصلت رويترز إلى أن حازم الشرع وسكرية هما من حررا النص النهائي لتعديلات قانون الاستثمار، على الرغم من عدم شغل أي منهما منصبًا حكوميًا معلنًا.
من إدلب إلى دمشق: "حاكم الظل" في المصرف المركزي
يعتمد الدور البارز للجنة في فك رموز الاقتصاد السوري على النفوذ الذي كان يتمتع به أعضاؤها في إدلب، المعقل السابق لهيئة تحرير الشام، التي كانت تُعرف سابقًا باسم جبهة النصرة، الذراع السورية لتنظيم القاعدة. وقد أسست هيئة تحرير الشام هياكل مالية وإدارية خاصة بها بعد انفصالها عن تنظيم القاعدة عام 2016، بما في ذلك شركة النفط "وتد" وبنك الشام.
ووفقًا لرويترز، فإن الشخص الذي يقف وراء دخول هيئة تحرير الشام إلى قطاع الأعمال هو "أبو عبد الرحمن"، وهو خباز سابق تحول إلى قائد عسكري بارز، كشفت رويترز أن اسمه الحقيقي هو مصطفى قديد. وقد أقام قديد مكتبه في الطابق الثاني من مصرف سوريا المركزي في اليوم التالي لسقوط دمشق، وأصبح يُعرف بـ"حاكم الظل" الذي يتمتع بسلطة رفض قرارات الحاكم الرسمي للمصرف.
إبراهيم سكرية: من قائمة العقوبات إلى قيادة الاقتصاد السوري
كشف تحقيق رويترز أن "أبو مريم"، رئيس اللجنة الاقتصادية، هو إبراهيم سكرية. وقد غادر سكرية مدينة بريزبن الأسترالية في عام 2013 قبل يوم واحد من قيام شقيقه أحمد بتفجير شاحنة ملغومة في سوريا. وشقيقه الآخر عمر حُكم عليه بالسجن في أستراليا بتهمة إرسال أموال لجبهة النصرة. وتؤكد الحكومة الأسترالية أن إبراهيم سكرية لا يزال خاضعًا للعقوبات.
مفاوضات وصفقات مثيرة للجدل
عند وصولها إلى دمشق في ديسمبر، استقرت اللجنة مبدئيًا في فندق "فور سيزونس"، حيث أُزيل قسم المشروبات الكحولية لاستضافة الشيوخ وعقد الاجتماعات الخاصة. ومع مرور الوقت، انتقلت اللجنة إلى مكاتب كان يستخدمها في السابق رجال أعمال بارزون في نظام الأسد.
قررت اللجنة عدم مقاضاة رجال الأعمال المشتبه بتحقيقهم أرباحًا غير مشروعة، مفضلة إبرام صفقات تسمح لهم بالعودة للعمل داخل سوريا مقابل التنازل عن جزء من أصولهم. ويشير مصرفي مطلع على المحادثات إلى أن حكام سوريا الجدد ليسوا "فيدل كاسترو"، بل هم "أقرب إلى مكيافيلي".
وبموجب هذه الاتفاقات، بدأت القيادة السورية الجديدة في تفكيك اقتصاد عهد الأسد، الذي كان موزعا في معظمه بين رجال أعمال نافذين سيطروا على قطاعات رئيسية. وقد تمكنت اللجنة من إحراز تقدم كبير، فبات ما لا يقل عن نصف إمبراطورية الشركات التي تأسست في عهد الأسد، والتي كانت تعرف باسم "الجروب"، تحت سيطرة اللجنة، بما في ذلك شركة الاتصالات الرئيسية سيريتل.
إعادة تسمية الشركات و"المدن المصهورة"
استأنفت بعض من أكبر شركات "الجروب" نشاطها ولكن تحت أسماء جديدة. على سبيل المثال، تحولت شركة الطيران الخاصة الوحيدة في سوريا "أجنحة الشام" إلى كيان جديد يُعرف باسم "فلاي شام" بموجب تسوية مع مالكها عصام شموط، الذي تخلى عن 45% من أسهمه ودفع 50 مليون دولار مقابل حصانته من الملاحقة القضائية.
كما أبرم بعض من أكبر أقطاب الأعمال في سوريا اتفاقات مع اللجنة. فقد سلّم سامر فوز، الذي فرضت عليه واشنطن عقوبات بتهمة التربح من إعادة إعمار سوريا، حوالي 80% من أصوله التجارية التي تُقدر قيمتها بين 800 مليون إلى مليار دولار. وسلم محمد حمشو، الذي تدير عائلته أنشطة تشمل إنتاج الكابلات والصناعات المعدنية والإلكترونيات، نحو 80% من أصوله التجارية التي تُقدّر قيمتها بأكثر من 640 مليون دولار.
هذه الاتفاقات أثارت غضب عدد كبير من السوريين الذين كانوا يأملون في رؤية شخصيات بارزة مرتبطة بالأسد خلف القضبان، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات محدودة.
التحديات والآمال المستقبلية
مع رفع الحكومة الأميركية للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، تتسارع وتيرة الوعود الاستثمارية. فقد قاد وزير الاستثمار السعودي وفدًا تجاريًا إلى سوريا لحضور مؤتمر استثماري يُتوقع أن يطرح فرصًا استثمارية تصل قيمتها إلى ستة مليارات دولار.
ومع اقتراب التسويات، بدأ بعض أعضاء اللجنة في تقلّد مناصب عامة، في إطار جهودهم لإضفاء الطابع الرسمي على عملهم الذي كان يتم في الخفاء. وقد بدأ العمل على تغيير لقب "شيخ" الذي كان أعضاء اللجنة يُنادون به بعضهم بعضا إلى لقب "الأستاذ"، مع توجيهات بارتداء البزّات الرسمية وإخفاء المسدسات.