ads
ads

من يقف وراء شبكة إبستين .. أسطورة الجنس والمخابرات في تاريخ أمريكا ( بروفيل )

حيفري إبستين
حيفري إبستين

يتابع العالم باهتمام بالغ تفاصيل الوثائق التي كشفت عنها وزارة العدل الأمريكية في ملف رجل الأعمال المدان بالاتجار الجنسي جيفري إبستين، وهي وثائق أعادت طرح سؤال جوهري لم يُحسم بعد: من كان يقف فعليًا خلف هذه الشخصية شديدة الغموض، التي استطاعت أن تُسقط في شِباكها أسماء وازنة من عالم السياسة والاقتصاد والثقافة والفن؟

السؤال يتجاوز شخص إبستين ذاته، ليقود إلى فرضية أوسع مفادها أن هناك ما يشبه «الأخ الأكبر» بتعبير جورج أورويل، يدير المشهد من خلف الستار، مستخدمًا المال والجنس والنفوذ كأدوات للتحكم في مسارات سياسية، وربما في مصائر دول كاملة. ويكفي التذكير بالزلزال الذي ضرب مؤسسة الرئاسة الأمريكية، وبالارتدادات العنيفة التي أصابت المؤسسة الملكية البريطانية، لفهم حجم هذا الملف وخطورته.

وُلد جيفري إبستين عام 1953 في بروكلين بنيويورك، وبعد مسار تعليمي متواضع نسبيًا، انتقل في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى عالم المال والأعمال. ومنذ تلك اللحظة، بدأت مسيرة يصعب حتى على أمهر كتّاب السيناريو في هوليوود تخيل حبكتها. واقع يفوق الخيال، مليء بالثروة الغامضة، والعلاقات الملتبسة، وسلوكيات المجون غير المنضبط، لكنه في الوقت نفسه محكوم بأهداف دقيقة لم تتضح كل معالمها بعد، وربما لن تنكشف إلا في المستقبل.

راهن إبستين – ومن يقف وراءه – على عنصرين أساسيين: المال والجنس. استخدم ثروته بسخاء وذكاء للاقتراب من شخصيات نافذة، عبر تسديد فواتير، وتقديم تبرعات، ودعم مؤسسات، ثم انتقل لاحقًا إلى المرحلة الأخطر، وهي توفير شبكات علاقات جنسية لعدد من المشاهير في السياسة والثقافة والفن، في إطار من السرية المحكمة.

بهذا المعنى، تحوّل إبستين إلى نسخة أكثر تطورًا وتعقيدًا من «مدام كلود» في فرنسا، واسمها الحقيقي فرناندا جرودي، التي أدارت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بيوت دعارة راقية في باريس، استهدفت سياسيين ورجال أعمال وشخصيات أجنبية نافذة، من بينهم مسؤولون من العالم العربي. اعتمدت مدام كلود على السرية المطلقة، وجمعت معلومات حساسة، وأقامت علاقات غير معلنة مع أجهزة أمنية وشخصيات نافذة، واستخدمت ما يمكن تسميته «الابتزاز الناعم»، مقابل حماية سياسية واستخباراتية. لكنها سقطت في نهاية السبعينيات عندما تبدلت الظروف، وحوكمت بتهمة التهرب الضريبي، في مفارقة تذكر بقضية آل كابوني.

على المنوال نفسه، تمتع إبستين بنفوذ واسع ومعاملة قضائية متساهلة لسنوات، رغم تورطه في جرائم جسيمة شملت استغلال قاصرين. ويبرز هنا اتفاق التسوية القضائية الذي أبرمه مع النيابة العامة في ولاية فلوريدا عام 2008، والذي وُصف على نطاق واسع بأنه غير مبرر ومثير للريبة.

عمليًا، تتراكم عناصر تدفع بقوة نحو فرضية المؤامرة. أولها: كيف فشلت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية، طوال سنوات، في رصد أو وقف أنشطة إبستين؟ وثانيها: ظروف وفاته الغامضة داخل زنزانته في 10 أغسطس 2019، بعد شهر وأسبوع فقط من اعتقاله، بما في ذلك تعطل كاميرات المراقبة في اللحظة الحاسمة. هذه التفاصيل وحدها كفيلة بتغذية شكوك واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها.

ومع قرار الكونغرس رفع السرية عن أجزاء من ملف إبستين، وتحت ضغط القاعدة الشعبية للرئيس دونالد ترامب المعروفة باسم «ماجا»، بدأت تتكشف أسماء ونوعية الشخصيات التي كانت تتردد على إقامات إبستين الفاخرة. هنا يصبح من الصعب اختزال القضية في مجرد انحراف أخلاقي فردي، إذ يبدو الأمر أقرب إلى استراتيجية منظمة تستخدم المال والجنس كوسيلة للنفوذ والضغط وتحقيق أهداف سياسية واستخباراتية كبرى.

ويكفي – من باب الفرضية – تصور امتلاك تسجيل جنسي لمسؤول سياسي أو رجل أعمال نافذ لفهم حجم القوة الكامنة في هذا النوع من الملفات. وقد أظهرت صور جمعت إبستين بكل من بيل جيتس، وبيل كلينتون، ودونالد ترامب، والأمير أندرو، كيف يمكن لفضيحة واحدة أن تُلحق أضرارًا هائلة بمؤسسات كبرى، من الرئاسة الأمريكية إلى العائلة المالكة البريطانية.

وفي هذا السياق، أعادت مجلة «ذي نيشن» الأمريكية، في مقال نُشر في 19 ديسمبر 2025، الربط بين إبستين وأجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية. وذهبت المجلة إلى أن إبستين كان أشبه بـ«دبلوماسي بلا حقيبة»، قادر على الوصول إلى الأثرياء وأصحاب القرار أكثر من كثير من السفراء الرسميين. وخلصت إلى أن علاقاته الاستخباراتية تشكل مفتاحًا أساسيًا لفهم جرائمه ونفوذه.

حجر الزاوية في هذه الرواية يتمثل في تصريحات مثيرة للجدل نُسبت إلى ألكسندر أكوستا، المدعي العام السابق في فلوريدا، الذي أشرف على تسوية 2008، قبل أن يصبح وزيرًا للعمل في إدارة ترامب الأولى. فبحسب هذه الرواية، قيل لأكوستا إن إبستين «ينتمي إلى أجهزة الاستخبارات»، وهو ما قد يفسر التساهل القضائي غير المسبوق الذي حظي به.

في المحصلة، تبدو قضية إبستين فصلًا معقدًا من تداخل السياسة بالاستخبارات والمال والجنس. وليس من المستبعد أن يكون هناك «إبستينات» آخرون، على مستويات مختلفة وفي بلدان متعددة، يُستخدمون للسيطرة على أفراد ودول عبر ملفات ابتزاز مالي أو جنسي، تتحول إلى سيف مسلط على الرقاب.

وربما لن تُكشف الحقيقة الكاملة إلا بعد عقود، عندما تُرفع السرية عن وثائق الاستخبارات، ويتعامل معها جيل جديد ببرود ولا مبالاة، كما نفعل اليوم مع فضائح تاريخية سابقة، من «صالون كيتي» في ألمانيا النازية، إلى قضية بروفومو في بريطانيا، وفضيحة لوچيا بي-2 في إيطاليا. عندها فقط، قد نكتشف أن لغز إبستين لم يكن استثناءً، بل قاعدة خفية في عالم السلطة.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
قرار من رئيس الوزراء بإنشاء فروع لجامعتي القاهرة والإسكندرية في الإمارات وماليزيا