يشارك الدكتور محمد داود، المفكر الاسلامى وأستاذ الدراسات الإسلامية واللغوية المتفرغ بجامعة قناة السويس، في معرض القاهرة للكتاب بدورته الواحدة والخمسين بكتابين هما كلمات "السنة النبوية والتطور الدلالي"، و كلمات القران والتطور الدلالى.
وقال الدكتور داود في كتابيه، إن اللُّغة مرآةُ المجتمع، تعكس ما فيه وتستجيب له، وتتأثر بما يُصِيبه من تطوُّراتٍ، واللُّغةُ التى تقف جامدةً قَدَرُها أنْ تُعْزَلَ وتختفى فلا يبقَى لها أثر؛ إنَّها سُنَّة جارية فى هذه الحياة: العُزْلَةُ مَوْتٌ، والتَّواصُلُ حياةٌ. فاللغة التى تستوعب كل جديد، ولها القدرة على التفاعل والتواصل والمواجهة ـ يُكتب لها الحياة.
وأضاف أن اللغة العربية لغة مجيدة، استوعبت كلمات القرآن الكريم فى القديم، وتستوعب كل جديد فى حياتنا المعاصرة، لكن طائفة من المتَّصلين بالدَّرْسِ اللغوى فى العربية أشاعوا أنَّ القرآن الكريم قد ثَبَّتَ العربية حتى جعلها عصيَّةً على التطوُّر عبر الزَّمن، وأثَّر هذا فى كثير من الناس حتَّى وقفوا أمام كل تطوُّرٍ للغة العربية وتحديث لمعاجمها؛ كى تعيش عصرها وتواجه التحدِّياتِ الحضارية الماثلة أمامها، وتواكب الحياة التى تفيضُ بالمتغيرات المتلاحقة. بل وصل الأمر ـ عند هؤلاء ـ إلى اعتبار كل تغير عن الأصل والقاعدة لحنٌ ينبغى أن يقاوَم، دون تفرقة بين تغير له صلة وثيقة بالأصل الذى أخذ عنه، وتغير مقطوع الصلة.
وأوضح: فإذا ما لَفَتَّ أنظارهم إلى حقيقة أنَّ اللغة أشبه بكائن حىٍّ كانوا يشهرون فى وجوهنا حُجَّةَ الوقوف عند الاستعمال القرآنى للكلمة، وكأنَّها ـ فى نظرهم ـ ضربةٌ قاضيةٌ يُسكتون بها الخصوم من جانبٍ، ويرون أنهم ينتصرون للقرآن ولغته من جانبٍ آخرَ، وأنَّهم أكثر إخلاصًا للقرآن ولغته. وكثيرًا ما يعلو هذا الصوت، ولا غرابة أن يجد أتباعًا كثيرين؛ بحكم العاطفة الدينية نحو القرآن والدين.
وتابع: قضيتُ سنين عددًا أُسَجِّلُ ما يُصادفنى من كلمات قرآنية تخرج عن هذه القاعدة، ولم تكن عصيَّةً على التطوُّر، الأمر الذي دعانى إلى أن أجمع بين الحين والحين تلك الكلمات القرآنية التى فارقت دلالتها آفاق الدلالة القرآنية إلى معانٍ مُحْدَثة، أو كلمات أخرى ضاقت دلالتها واختفت وجوهٌ دلاليَّةٌ من معناها؛ استجابة لواقع الحياة وتغيُّرات المجتمع.
وواصل: ظللتُ فى هذه الرحلة مع كلمات القرآن أتجاذب أطراف الحديث بين الحين والحين، مع مَن يسمح أفق الحوار معهم أن يحتملوا تساؤلاتى وأُطروحاتى، بين رافض للفكرة من جذورها، ومجامل فى الموافقة مع التحذير من أنْ أُصْدَم بعاصفة من النقد الذى قد يتجاوز حدود الموضوع إلى شىءٍ من التجريح وإلقاء التُّهَم، وما أكثرها فى عصرنا!.
وأكمل: ظللت هكذا رَدَحًا من الزمن حتى اكتملت عندى جملة من كلمات القرآن يمكن أن تنهض عليها دراسةٌ علميَّةٌ أستطيع أن أخاطب بها القوم، فأختلف معهم حينًا، وأتَّفقُ معهم حينًا آخر، وأرجو أن نصل ـ فى النهاية ـ إلى برِّ الأمان.
وأفاد بأن الدراسة التى ناقشها الكتاب تخاطب العقل فى تُؤَدَةٍ ورويَّة، مؤسَّسة على حقائق علم اللغة الحديث، على المنهج الوصفى الذى يرصد الظواهر ويُحَلِّلها، دون إصدار أحكام معياريَّة.
واستطرد: أن هذه الدراسة تؤكد أن القرآن الكريم قد صنع شيئًا عظيمًا ومُعْجِزًا فى هذه اللغة، فالقرآن الكريم كما أعطى هذه اللغةَ الاستقرار فى كل المستويات اللغوية (صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية)، فجعل العربى موصولًا الله بتراثه طِيلَة أربعة عشر قرنًا، وهذا لم يتأتَّ للغة أخرى سوى عربية القرآن ـ فإنَّه ـ كذلك ـ لم يمنعها من أن تستجيب لحركة الحياة فتتطوَّر، لكن هذا التطوُّر يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأصل الذى أخذ عنه، وهو ليس تطوُّرًا عشوائيًّا، وإنما يسير وَفْقَ سنن العربية.
وأردف: أيضًا مما يُسَجَّلُ لهذه الدراسة أنَّها أكَّدت ألَّا نَتَعجَّلَ فَهْم لفظ من الألفاظ القرآنية بالمعنى الشائع فى مُـحدَث الكلام، وإنَّما ينبغى أن نراجع مصادر اللغة والتفسير لنقف على دلالة اللفظ فى سياقه وزمنه وبيئته، متخذين من العربية بابًا إلى المعانى القرآنية؛ فما من سبيل إلى فَهْم القرآن الكريم فهمًا واضحًا ودقيقًا إلَّا العربية الفصيحة؛ فإنه كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 193 - 195]، فإذا لم نَعْلَمْ المعانى المختلفة للفظ الواحد، والألفاظ المختلفة التى تؤدِّى معنًى واحدًا، ودرجات المعنى فى اللفظ، فكيف نفهم الدلالة المقصودة فى القرآن بالدقة والوضوح الذى يجعلنا فى أمن من اللبس والغموض.