نماذج من الصبر تقدمها أمهات الشهداء ليصبحن أمهات مثاليات من الدرجة الأولى مع مرتبة الشرف، يقوّي الله قلوبهن بالصبر ويعيشن حياتهن بالسلوان، بل وبعد أن يفقدن أعز ما لديهن فلذات أكبادهن يقدّمن أبنائهن الآخرين فداءً للوطن.. ورصدًا لأحد تلك النماذج المشرّفة تعايشت 'أهل مصر' يومًا كاملًا مع أسرة الشهيد النقيب عمرو السقا ابن المدينة الباسلة، وذلك بدءًا من زيارة قبره في منطقة 'قبضايا' ببورسعيد، مرورًا بالمدرسة التي أُطلق عليها اسمه، وانتهاءً بزيارة منزله الذي تحوّل إلى 'متحف' يضم في جميع أرجائه صورا للشهيد.
'أهل مصر' مع والدة الشهيد في قبره
من أمام المقبرة التي دُفن فيها الشهيد، روت والدته 'أمل عبد اللطيف رضوان'، والتي تبلغ من العمر 54 عامًا، أنها اعتادت أن تقضى كل يوم 'جمعة' عند المقبرة وكأنها تزور ابنها في بيته وتمسك بيدها كتيب للأدعية، وتظل تقرأ فيه وبعدها تجلس لتروي له كل شئء حدث لها وللأسرة كلها، وقالت: 'كأن عمرو يعيش بيننا لحظة بلحظة'، اعتاد كل من في المكان على وجودنا أنا ووالده، أراعى نظافة المكان حوله وأهتم بالزرع الأخضر.
محررة 'أهل مصر' مع والدة الشهيد عمرو السقا بمدارس بورفؤاد
وفي مشهد آخر ترافق 'أهل مصر' والدة ووالد الشهيد عمرو السقا في جولة بمدرسة بورفؤاد الإعدادية للبنات، والتي أطلق عليها مدرسة الشهيد عمرو السقا، حيث تزيّن صور الشهيد عمرو المدرسة، وتؤكد والدة عمرو بأنهم يوفرون جميع الاحتياجات التي تطلبها إدارة المدرسة ويشجعون الفتيات المتفوقات بشهادات للتقدير وجوائز مالية وغيرها، كما تم فتح قاعة رياض أطفال بمدرسة يوسف عاشور الابتدائية، وتم تجهيزها استعدادًا لافتتاحها.
منزل الشهيد عمرو السقا يتحول إلى متحف بصوره
وفي مشهد ثالث، انتقلت 'أهل مصر ' إلى منزل الشهيد عمرو السقا، والذي تحول إلى 'متحف' يضم في جميع أرجائه صورا للشهيد، والشهادات التقديرية التي حصل عليها، والكاب الخاص به تمسكه الأم وتقول إنها تحتفظ به ولا تزال رائحة ابنها فيه؛ فهي لم تغسله، وفي اليد الأخرى تمسك الأم ألبوم صور يضم جميع المراحل العمرية للشهيد، تروي وتنظر بشغف ولهفة في الصور بل كانت الأم تتحدث إلى ابنها في كل صورة نظرة مختلفة وكانهأ تقول له 'وحشتني'، وفي إحدى الصور 'تطبطب عليه'، وتنظر إليه نظرات عميقة تؤكد 'الوجع' الذي بداخلها.
'أهل مصر' في منزل الشهيد عمرو السقا
وتسرد الأم المكلومة قصتها، فتقول تزوجت منذ 26 عاما بعد تخرجي من المعهد العالي للخدمة الاجتماعية، وكان زوجي يعمل موظفا بديوان عام محافظة بورسعيد، وأنجبت عمرو ابنى في 12 أغسطس 1993، وبعده بثلاث سنوات أنجبت عبد الرحمن ثم محمد، وتفرغت لتربية أبنائي وكان شغلي الشاغل هو تربيتهم تربية صالحة وتعليمهم تعليما أفتخر به بل يفتخر به الجميع، ومرت السنوات وحصل عمرو على مجموع 92% بالثانوية العامة، وفرحت فرحة عمري لأنني بذلت معه مجهود كبيرا في تحصيل دروسه دون كلل أو ملل، والتحق بكلية الفنية العسكرية، ومرت سنوات وأنا أغرس فيه حب الوطن، وأنتظر تخرجه بفارغ الصبر، حتى أراه ضابطا كبيرا يفرح قلبي.
قصص وحكايات في ألبوم الذكريات
وبالفعل تخرج عمرو، وتسلم عمله في بداية الأمر بمحافظة الإسماعيلية، وبعدها بأيام تم نقله إلى سيناء، ولم يخبرني بذلك، وبعد فترة عاد إلى بورسعيد في إجازة طويلة 15 يوما، وكان عمرو ابني على غير عادته، عندما طرق الباب وفتحت له قال لي 'افرحي يا حاجة هاقعد معاكى 15 يوما بحالهم اشبعي مني بقى'، وخلال إجازته حضر معنا حفل زفاف ابنة عمته وكان يوما عجيبا فقد رأيت ابني وكأنه العريس، وكان يودع جميع أقاربه ويطلب التصوير معهم، وقال لي أيه رأيك في ابنك يا حاجة عريس حلو، قلت له عريس والله يا عمرو وفي اليوم ده شوفته أجمل واحد في الدنيا وكأنه ملاك عمرو وليس عمرو.
أخر صورة التقطها عمرو مع عائلته قبل استشهاده بساعات
وسافر ابني في اليوم التالي، واستقل عمرو سيارته إلى سيناء، وفي طريقه، وجد ثلاثة أمناء شرطة ركبوا معه وشاهدوا مصنعا كبيرا 'السبيكة للملح'، وعليه اثنين ملثمين شعر عمرو أن هناك شيئا يحدث فعاد بسيارته وأخذ طبنجة من أحد أمناء الشرطة وضرب النار على الملثمين الذين كانوا يحتجزوا صاحب المصنع وبعض الأفراد فقتل واحدا وأصاب الآخر، وتوجه عمرو إلى سيارته للإبلاغ عن الإرهابين، ولكن كعادتهم ضربوا عليه رصاص من ظهره، واستشهد ابني البطل وعمره 24 عاما، في 9 أغسطس 2017 قبل عيد ميلاده بثلاثة أيام، وكان استشهاد عمرو صفعة قوية على قلبي بل عمري كله، تبدلت حالتي لأصبح إنسانة أخرى في عالم آخر، واشتدت الأزمة وأصبح البيت كئيبا، فقد ضاعت الفرحة بموت عمرو.
والدة الشهيد عمرو حولت المنزل لمتحف بصوره
نصحتني والدتي وقالت لي ابنك مات عيشي لباقى أولادك الحال كده صعب لازم تفوقي شويه، وبالفعل بدأت أشعر بمن حولي وأعود للحياة مرة أخرى من أجل أبنائي، ومرت الأيام ونجح عبد الرحمن ابني في الثانوية العامة، وكان مجموعه 92% والتحق بكلية الهندسة وفي العام الثاني له بالكلية أبدى رغبته في التحويل إلى الفنية العسكرية، وحدث جدالا كبيرا بيننا؛ قلت له يا عبد الرحمن أنا فقدت واحد ولا أتحمل أن يكونوا اثنين، ولكنه أصر وقال لي عندما استشهد عمرو ماذا قلتي، سمعتك وأنتي تقولين الحمد لله، لهذا السبب ربنا أدخل الصبر والسلوان على قلبك، وشقيقي الشهيد كانت رغبته بأن التحق معه بالفنية العسكرية وأنا أريد تحقيق رغبة أخي.
عبد الرحمن ووالدته أثناء زيارته لشقيقه بالمقابر
وبالفعل قلت يفعل الله كل ما فيه الخير، ورفعت يدي للسماء وقلت ربي لا تضرني في ابني واحفظه واحميه من كل شر، والتحق عبد الرحمن بالفنية العسكرية وعندما قضى الـ 3 أشهر الأولى بالفرقة الأولى، وفي أول إجازة له اتصل بي وقال أنتظرك يا أمي عند مقبرة عمرو، فأنا سأصل بورسعيد وأول شيء أحب أن أراه بعد عودتي هو عمرو أخي، ذهبت والتقيت بابني عبد الرحمن وضممته لصدري، ولم أستطيع نسيان مقابلة عبد الرحمن لأخيه عمرو أمام المقبرة بمجرد وصوله رأيت عبد الرحمن يرفع يده بالتحية العسكرية لأخيه 'لحظات مرت عليّ وأنا لا أتمالك نفسي من البكاء وجلسنا معا وكأننا أردنا أن نقول له رسالة وقلت له بالفعل عبد الرحمن لبس البدلة العسكرية بدلا منك يا عمرو وهايكمل المسيرة'.
المنزل تحول إلى متحف بصور الشهيد
ومرت الأيام وحصل ابني محمد على بكالوريوس تجارة، ووصل عبد الرحمن للفرقة الثالثة بالفنية العسكرية، ويروي لي عبد الرحمن بأنه فخور بشقيقه عمرو؛ ففي كلية الفنية العسكرية يوجد مدرج كامل باسم الشهيد عمرو السقا، وأمام عنابر النوم للطلبة توجد صورا لعمرو وبياناته الشخصية على الجدران، والطلبة الملتحقين بالكلية بالفرقة الأولى تحدثهم هيئة التدريس عن قصة الشهيد عمرو السقا لدرجة أن شقيقه عبد الرحمن يشعر بالفخر ويقول إنه يريد أن يقول لهم: 'أنا أخو الشهيد بل أنا أخو البطل'، ويقول عبد الرحمن إن شقيقه عمرو ترك له قصة بطولة يفتخر بها مدى الحياة.
مدرسة الشهيد عمرو السقا تتزين بصوره
واختتمت والدة الشهيد حديثها، بأنها تنتظر دخول عبد الرحمن المنزل في إجازته، وعندما تدخل عليه غرفة النوم ويكون مستغرقا في سبات عميق تنظر إليه وكأنها ترى شقيقه عمرو، وكأن الله جعله شبيها له في كل شيء؛ شكله، تصرفاته، حركاته، وكأن الله أراد أن يعوضها فقدان عمرو بعبدالرحمن على الرغم من أن ملامحه كانت مختلفة تماما عنه، قائلة: أدعوا الله أن يحفظ ابني من كل مكروه، وأن يأخذ بثأر أخيه من كل إرهابي حرم أم من ابنها وتسبب في جراح لها مدى الحياة.
'أهل مصر' تتعايش يوما مع أسرة الشهيد عمرو السقا
'أهل مصر' تتعايش يوما مع أسرة الشهيد عمرو السقا