لم يتخيل السوريون في يوم من الأيام أن يسقط النظام البعثي بقيادة بشار الأسد بهذه الطريقة وبتلك السرعة، لكن يبدو أن الجيل الحالي بعدما زادت معاناته من ديكتاتورية النظام، رحب بالسقوط المدوي والسريع أيًا كانت الطريقة والنتائج.
وهذا مؤشر خطير لسلوك الشعوب حين تضيق عليهم مساحة الوطن ولا يجدون فيه أملًا لتغيير واقع يفرض نفسه بالقوة بذريعة أن بديله الفوضى أو الاحتلال وأنه النظام الرشيد الذي يعى مصلحة شعبه أكثر من الشعب نفسه، فيمعن في سحق خصومه وسلب إرادة أي منادٍ بالتغيير، وقتها لن يبالي الجميع على أي نحو يسقط النظام، المهم أن يسقط فقط.
والآن في ظل خوف وتوجس من الأنظمة العربية للمشهد الجديد في سوريا ومحاولة استيعابه، تظل تلك الدول في موقف المتفرج المتردد في فتح قنوات اتصال مع الرئيس الحالي أحمد الشرع "رئيس هيئة تحرير الشام" والذي يعتلي الحكم الآن في سوريا.
موقف لا يحسد عليه الجميع، فكيف تلتقي أفكار قادة دول اجتمعوا يومًا على حرب مثل تلك الجماعات، فجأة يجدون دولة محورية مثل سوريا سقطت في أيديهم واعتلى الحكم فيها قيادة لا يغفل أحد أنها صنيعة دول وأجهزة غربية.
أعي جيدًا صعوبة الموقف أن تتحول الجماعة التي اجتمع الجميع على رفضها، وجيّشت القوى الدولية والإقليمية للقضاء عليها، وتم تصنيفها دوليًا كجماعة إرهابية، إلى فصيل حاكم في بلد شقيق، وكيف يتحول زعيم تنظيمها إلى قائد عربي تجمعهم به المحافل السياسية كممثل لبلده.
ولكن بالرغم من ذلك، فإن الفراغ السياسي إن لم تسارع القاهرة لتملأه قد يسبقنا فيه دول وجهات وتصبح أولى وأكثر تأثيرًا في مجريات الأمور، فالسياسة لا ثبات فيها وهي فن الممكن، خاصة أن من يرى المشهد جليًا يرى أن أمريكا لا تسعى فقط إلى تسكين دول المنطقة تحت حكومات إسلامية - بل شاركت في صناعة هذا - بشرط أن تكون تلك الحكومات الجديدة موالية للصهيونية ولا تجد غضاضة في تقبل إسرائيل وسط شرق أوسط جديد لا يهدد أمن إسرائيل فيه شيء ولا يعكر صفو التطبيع المأمول مع الجميع.
ادعاء الحكام العرب أن انفتاح دولهم على إسرائيل قد يكون أكثر صعوبة في ظل حركات إسلامية أو جهادية، بعدما تم "استئناس" تلك الحركات بل ومشاركتها الحكم.
وفي ظل هذا التوجه الذي بات جاهزًا على الأرض وأصبح ضم المزيد من الدول فيه هو مسألة وقت، أصبح من الضروري احتواء القاهرة للوضع في دمشق. فنحن أولى بسوريا من الجميع، ليس فقط بما يجمعنا بهم من شرعية تاريخية بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا بعد تأسيس الجمهورية المتحدة في 22 فبراير 1958 بتوقيع الرئيسين السوري شكرى القوتلي والمصري جمال عبدالناصر ميثاق الجمهورية المتحدة، واختيار عبدالناصر رئيسًا والقاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة،
ولكن بحكم أن ما سيحدث في سوريا سيؤثر على مصر، يجعلنا أمام ضرورة استيعاب ما حدث سريعًا واحتواء الوضع الجديد في شرق أوسط جديد أُعيد صياغة أهدافه وتم التنفيذ وفق خطة طويلة المدى بدأت منذ 2011 أسقط فيها كل الحكام الجمهورين وآخرهم سوريا لتحويلها لنظام أردوغاني جديد في المنطقة يحظى بقبول شعبي وموالي للصهيونية ومتفاهم مع الغرب.
بعد نجاح تجربة حكم الحزب ذو الخلفية الإسلامية في تركيا بقيادة أردوغان، وبعد مساعدته لأمريكا في إسقاط النظام البعثي في سوريا والقضاء على النفوذ الإيراني داخل الأراضي السورية واللبنانية، أصبح النموذج التركي هو النموذج الأمثل للمحاكاة في المنطقة، وها هي البداية جاءت من سوريا.
ويبدو أن أحمد الشرع بقراره خلع الجلابية الإسلامية واستبدالها بالبدلة الغربية وتهذيب اللحية قد وعى جيدًا ما هو الدور المنوط به في سوريا، وهو تقديم الحكم الإسلامي في ثوب جديد متحضر منفتح على الغرب، مطمئنًا لإسرائيل في أول تصريحاته أن سوريا لن تكون جاهزة في الوقت الحالي للحرب، مسقطًا أول أهداف الجماعات الإسلامية والجهادية، والتي استخدمتها في الماضي لتأليب الشعوب على حكامها، ودعواهم للخروج عليهم لتحقيق خلافة إسلامية رشيدة لتحرير القدس، وأنها منفتحة على الجميع، ما يطمئن أمريكا أن حليفها الأهم في المنطقة سيكون آمنًا تمامًا مع نظام إسلامي لا يرى في الصهيونية عدوًا، فقد تم إعداد قادته جيدًا للقضاء على الفكر المتطرف من وجهة نظرهم والذي كان يدعو للحرب وتحرير فلسطين في الماضي القريب.