ads
ads

أبو نورا وسوسيولوجيا لحمة الراس .. ما لا يعرفه علماء الاجتماع عن دلالات الطعام عند الشعب المصري

محمد مختار
محمد مختار

في بنية الثقافة الشعبية المصرية تظهر أطعمة ووجبات تعبر عن سوسيولوجيا خاصة بالمصريين، هي سوسيولوجيا تربط بخيط دقيق بين طبقات المجتمع لدرجة أننا في بعض الحالات لا نلحظ فروقًا ذات بال بين معظم المصريين على الرغم من تفاوت مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم المالية، فوجبات مثل الفول والطعمية والمسقعة هي وجبات شائعة في منازل المصريين وتظهر في قوائم الطعام للمطاعم من المهندسين حتى كعبيش ومن التجمع الخامس حتى منشية ناصر، لا نجد مصريًا يأنف أن يطلبها من نادل في مطعم، ولا نجد زوجة أو أم تترفع عن تقديمها لأسرتها.

لقد تعلم المصريون الدرس من قديم، درس أن يشتركوا في نفس الطعام، لأن الشعوب التي تترفع عن صنف أو أصناف من الطعام تأكلها فئة منها هي شعوب محكوم عليها بالتنافر طال الزمن أو قصر، بالتدني البشري والأخلاقي. وقد يعلم كثيرون أن العبيد الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية – على سبيل المثال – كان لا يسمح لهم بتناول اللحوم مثل البيض الساكسون، وتقتصر وجبة البروتين المسموح لهم بها على الدجاج المقلي، كما تحول البطيخ – وهو صنف محبب لمعظم شعوب الأرض – إلى وسيلة للتندر على السود الأمريكيين حتى الآن.

ابو نورا مصري من السيدة زينب بائع لحمة الراسابو نورا مصري من السيدة زينب بائع لحمة الراس

في مصر وحدها يأكل جميع المصريين نفس الأطعمة، وبين التدرج الاجتماعي لفئات المصريين لم تكن هناك أطعمة خاصة بفئة دون أخرى، لكن مع ذلك فقد ابتدع المصريون اسمًا لأصناف من الأطعمة تحولت بفضل مهارات من يطبخها إلى وجبات تتغلب على ما يحاول علماء الاجتماع وخبراء الاقتصاد الغربيون وضعه من فوارق بين الطبقات وفقًا لمستويات الدخول أو ما يحصلون عليه من طعام، وذلك ضمن عشرات من فئات التصنيف التي تحاول تقسيم شعب كل بلد إلى أثرياء وفقراء ومن هم تحت خط الفقر.

وتعرف الذهنية المصرية لفظًا غريبًا واستثنائيًا لا يكاد ينطبق معناه على حقيقته إلا في مصر وبين المصريين فقط، وهذا اللفظ هو 'حلويات اللحوم'، والخلط الغريب بين لفظ (حلويات) و(اللحوم) هو خلط مصري بامتياز، فالحلويات معروفة في كل الثقافات بلفظها وما تنصرف له من معانٍ، بينما اللحوم معروفة كذلك، ولكن في مصر فقط يوجد ما يسمى بـ(حلويات اللحوم)، وهي تشمل أجزاء من الماشية وأحشائها بينها لحمة الرأس، وينطقها المصريون باسم (لحمة الراس) بدون همزة على الألف، بالإضافة إلى الفشة والكرشة والممبار واللسان والطحال، بينما تظل الكبدة عنصرًا استثنائيًا بسبب ارتفاع سعرها مقارنة بباقي حلويات اللحوم.

ومن يتجول في شوارع مصر يلحظ أمام متجر بعض القصابين شخصًا يقف على طاولة خاصة أمام كل متجر، وهي طاولة مصممة بشكل موحد لتكون مناسبة لبيع حلويات اللحوم، وغالبًا ما يكون الشخص الذي يقف عليها معروفًا لمعظم من في الحي ومحل ثقتهم فيما يقدمه لهم من (حلويات لحوم)، تقف على رأس القائمة منها لحمة الراس. وبينما تتكفل الجهات الرسمية بالرقابة على اللحوم بأنواعها، فإن ضمير من يقف على منضدة (حلويات اللحوم) هو فقط ما يطمئن له كل من يشتري صنفًا من (حلويات اللحوم). ومن بين من قابلتهم من هؤلاء من أصحاب الضمير الملتزم والابتسامة التي لا تفارقه وهو يبيع بضاعته: أبو نورا بائع حلويات اللحوم في فيصل، والذي يفخر بانتمائه بالمولد لحي السيدة زينب الشهير، الحي الذي مثل مكانًا لأحداث فيلم 'السفيرة عزيزة' الذي ظهر فيه.

وعلى رأس القائمة لحمة الراس، وفي الثقافة المصرية فإن لحمة الراس هي البديل الأقل تكلفة لوجبة اللحوم، والتي تبرع الأمهات في خداع الأبناء بطبخها بعد إغراقها بالتوابل ضمن توابل تنفرد بها المائدة المصرية حتى تقنع الأمهات الأبناء، وأحيانًا الأزواج، بأنهن اشترين وطبخن لحومًا عادية. وبين خدعة بعض الأمهات ومهاراتهن في الطبخ يبقى في كل الأحوال أنه في ظل ما قد تعانيه معظم العائلات المصرية من ظروف اقتصادية تبقى لحمة الراس هي بديلًا محببًا يصنع البهجة على موائد المصريين الذين يخلطون السعادة بالطعام. فلتلتف العائلات المصرية حول أطباق تعطيهم الإحساس ليس فقط بالشبع، بل بالترابط الاجتماعي. فلحمة الراس التي يأكلها سكان حي فيصل وكعبيش بديلًا عن اللحوم العادية، هي نفسها لحمة الراس التي تقدمها أشهر المطاعم والفنادق في أحياء مصر الغنية، ولكن الفرق أن أبا نورا يبيعها بثمن زهيد لجيرانه الفقراء، بينما القائمون على هذه المطاعم والفنادق يقدمون نفس لحمة الراس بأسعار تناسب نظرة رواد هذه المطاعم والفنادق لأنفسهم ولما يطلبونه من أطباق يعتبرونها شكلًا من أشكال الترفيه، بينما هي وجبة أساسية عند غيرهم من الناس.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً