ads

محمد مختار يكتب عن رأس النعامة والعائدين من مصر للسودان : حبابكم عشرة

محمد مختار
محمد مختار

على جانب من الطريق، حيث يتصل شارع جانبي بشارع فيصل الرئيسي في قلب القاهرة الصاخبة، توقفت حافلاتٌ مكتظةٌ بالانتظار، لا تنتظر مجرد ركابٍ عابرين، بل تنتظر عودة أشقائنا السودانيين. هؤلاء الذين حملتهم الأقدار إلى ضيافة مصر، بعد أن فرضت عليهم الهجرة القسرية واقعًا لم يختاروه، وها هم اليوم يعودون، أو يحاولون العودة، إلى ديارهم في

إن ما كشفته الحرب السودانية الدائرة لم يكن مجرد صراعٍ على السلطة، بل كشف عن حقيقةٍ موجعةٍ مفادها أن الشعب السوداني هو الشعب المظلوم في بلاده. لقد دفع هذا الشعب، بكل أطيافه وتكويناته، فواتيرَ غير مسبوقة، لم تكن مجرد أرقامٍ في دفاتر الحسابات، بل كانت دماءً زكيةً سالت، وأموالًا تبددت، ومستقبلًا ضاع. كل ذلك بسبب حربٍ لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، حربٌ لم تنشب في بلاده إلا بوازع الصراع المحموم على السلطة، وتوزيع النفوذ، وذلك على الرغم من كل الأكاذيب والأباطيل التي يروجها كل طرفٍ في هذا القتال المدمر، هذه الحافلات المنتظرة على قارعة الطريق ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي رمزٌ لمأساةٍ إنسانيةٍ عميقة، وشهادةٌ حيةٌ على أن الشعوب هي دائمًا الضحية الأولى والأخيرة في صراعات القوى المتناحرة. إنها صرخاتٌ صامتةٌ من قلب السودان، تتجاوز الحدود والأكاذيب، لتصل إلى كل ضميرٍ حيٍ في هذا العالم.

إن مشهد الشوارع الجانبية، حيث تتجمع حافلات العودة إلى السودان، يحتم علينا وقفة تأمل عميقة، كمصريين وسودانيين، لنواجه الحقيقة دون مواربة أو إخفاء، متجنبين بذلك سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. فلقد كشفت الحرب الأهلية الدائرة في السودان حقيقة دامغة: مصر ليست مجرد عمق استراتيجي للسودان، بل هي، والأهم، عمقها البشري الحي.

لقد فتحت مصر أبوابها، واستقبلت الملايين من أهلنا النازحين من السودان، دون تمييز أو تدقيق صارم في طرق الدخول لنسبة كبيرة منهم، حتى وإن كانت غير نظامية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن مصر، بشعبها ومؤسساتها الرسمية، لم تضع أية عراقيل أمام الآلاف من السودانيين، ليس فقط للعمل، بل للانخراط بقوة في تأسيس مشروعات اقتصادية، ودون تكبيلهم بأي إجراءات بيروقراطية تذكر. هذا هو أقل ما يمكن أن تقدمه مصر لأشقاء نزحوا من ديارهم في ظروف كارثية، فرضتها عليهم حرب عبثية لم تكن لهم فيها يد.

لم يجد السودانيون ولا المصريون أي غضاضة في هذا الاندماج العفوي، فقد عاشوا سويًا في مساحة اجتماعية مشتركة على مر التاريخ، تتشابك فيها الأنساب وتتداخل الثقافات. لكن فترة النزوح القسرية إلى مصر، كمرآة صافية، عكست أجمل ما في العلاقة بين الشعبين، من تآزر وتراحم وتكاتف، وبرهنت على عمق الروابط التي تتجاوز أي حدود مصطنعة. وفي الوقت ذاته، لم تخلُ هذه الفترة من إبراز بعض الجوانب السلبية أو "أسوأ ما فيها" – وهي جوانب لا مفر منها في أي تجمع بشري كبير – لكنها تظل استثناءات لا تطغى على جوهر العلاقة التاريخية والقدر المشترك.

فالمصير بين وادي النيل، شمالًا وجنوبًا، قدر لا فكاك منه، والتحديات المشتركة لا تزيدنا إلا إيمانًا بأن الوحدة الحقيقية تكمن في تلاحم الشعوب قبل تلاحم الدول، وأن قوة مصر والسودان تكمن في وحدة أبنائهما، دمًا وروحًا ومستقبلًا. لا تُخطئ العين، في كل مسجد من مساجد الأحياء المصرية التي احتضنتهم، حضورًا طاغيًا لإخواننا السودانيين. لقد أصبحوا، بحكم الأمر الواقع، يشكلون الأغلبية بين رواد بيوت الله، في مشهدٍ يجسد عمق الروابط الإيمانية التي تجمع شعبين. وما تلبث هذه الملاحظة أن تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، حيث تبرز دماثة خلق الشباب السوداني، على وجه الخصوص، في المواصلات العامة. فترى كل شابٍ منهم يبادر بالوقوف ليُفسح مكانًا لمسنٍ أو امرأة، في لفتةٍ تلقائية تنمّ عن أصالة معدنٍ وشيمٍ قويمة، قلّما نجد لها مثيلاً في زحام مدننا المعاصرة.

لعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا أن هذه الهجرة السودانية القسرية إلى مصر، التي فرضتها ظروف الحرب القاهرة، قد عمّقت العلاقة بين الشعبين الشقيقين بشكلٍ لم يكن موجودًا من قبل. لم تعد هذه العلاقة مجرد روابط جوارٍ أو مصالح عابرة، بل تحولت إلى نسيجٍ اجتماعيٍ متداخل، يتضح أثره في شوارع أحياءٍ بعينها، التي اكتست بطابعٍ سودانيٍ أصيل. فترى اللافتات على جانبي الشوارع تحمل أسماءً سودانية خالصة، وكأنما هي امتدادٌ طبيعي لأم درمان أو الخرطوم في قلب القاهرة أو الإسكندرية.

لقد تذوق المصريون، بطبيعة الحال، الخبز السوداني الشهي، الذي حمل معه عبق أرضٍ وتراثٍ عريق. بل إن بعض المصريين باتوا زبائن دائمين للمطاعم والمقاهي السودانية، كلما سمحت لهم الظروف، ليس فقط لتذوق الطعام، بل لاستشعار جزءٍ من روح السودان التي باتت تسري في عروق هذه الأحياء. إنها علاقةٌ تجاوزت حدود الجغرافيا، لتُصبح وشائج إنسانية، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ المشترك والمصير المترابط. فهل لنا أن نرى في هذه التجربة، رغم مرارة البدايات، نواةً لتعاونٍ أعمق وتفاهمٍ أكبر بين شعبي وادي النيل؟

في خضم التحديات الراهنة، تتجلى الحاجة الماسة إلى يقظة حقيقية تجاه حملة متزايدة تستهدف زرع بذور الشقاق والكراهية بين الشعبين المصري والسوداني الشقيقين. هذه الحملة، التي تبدو وكأنها منظمة وممنهجة، قد تكون مدفوعة بأجندات خفية أو ربما هي نتاج تصرفات فردية غير مسؤولة؛ لكنها في كل الأحوال تستدعي منا أعلى درجات الانتباه والحذر. فالعلاقات التاريخية والروابط الثقافية والاجتماعية التي تجمع وادي النيل هي أعمق وأرسخ من أن تعصف بها محاولات يائسة للتفرقة.

ولكي نكون أمناء مع أنفسنا ومع تاريخنا المشترك وحتى لا نكون مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، لا بد أن نقر بحقائق مؤلمة تكشفت في الآونة الأخيرة. لقد تعرض عدد غير قليل من الإخوة السودانيين البسطاء، الذين دفعهم القدر إلى اللجوء إلى مصر، لعمليات احتيال بشعة على يد سماسرة عقارات عديمي الضمير. هؤلاء استغلوا ظروفهم الصعبة وحاجتهم الماسة إلى المأوى، فخدعوهم وأجَّروا لهم عشرات الآلاف من العقارات بأسعار تفوق قيمتها الإيجارية الطبيعية بأضعاف مضاعفة. هذا الاستغلال لم يقتصر تأثيره على الأشقاء السودانيين فحسب، بل امتدت تداعياته لتلقي بظلالها على المواطنين المصريين أنفسهم، الذين دفعوا الفاتورة لاحقاً في شكل ارتفاع غير مبرر في أسعار الإيجارات وتفاقم في الأزمة السكنية.

وهنا، يصبح لزامًا علينا أن نتوقف لحظة للمراجعة والتقييم. كان الأجدر بنا، بل كان الواجب الإنساني يقتضي، أن نمد يد العون والمساعدة لكل لاجئ سوداني بطريقة أكثر تنظيماً وكرامة، تختلف تماماً عما حدث بالفعل في بعض الأحيان. إن التضامن مع الأشقاء في محنتهم هو مبدأ أصيل في قيمنا وتقاليدنا. كما يجب علينا أن نرفض رفضاً قاطعاً، وأن نتوقف فوراً عن ترديد تلك النغمة الكريهة التي تزعم بأن وجود الأشقاء السودانيين في مصر هو السبب المزعوم وراء الأزمات العقارية والاقتصادية. هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، وهي لا تخدم إلا أجندات بث الفتنة وتقويض التلاحم الوطني. إن الأزمات الاقتصادية لها جذورها وعواملها المتعددة والمعقدة، ومن غير المنصف أو العقلاني إلقاء اللوم على ضيوف اضطرتهم الظروف الصعبة إلى اللجوء إلى وطنهم الثاني وألا نتوقف عن ترديد الجملة التي يرددها كل سوداني لضيوفه : حبابكم عشرة بلا كشرة .

إن تعزيز أواصر الأخوة بين الشعبين يتطلب منا العمل الجاد على معالجة هذه التحديات بشفافية ومسؤولية، والتصدي بحزم لكل من يحاول استغلال الظروف لبث الفرقة. فهل نحن على قدر هذه المسؤولية التاريخية؟

وعلى هذا تتجلى الحاجة الماسة إلى يقظة حقيقية تجاه حملة متزايدة تستهدف زرع بذور الشقاق والكراهية بين الشعبين المصري والسوداني الشقيقين. هذه الحملة، التي تبدو وكأنها منظمة وممنهجة، قد تكون مدفوعة بأجندات خفية أو ربما هي نتاج تصرفات فردية غير مسؤولة؛ لكنها في كل الأحوال تستدعي منا أعلى درجات الانتباه والحذر. فالعلاقات التاريخية والروابط الثقافية والاجتماعية التي تجمع وادي النيل هي أعمق وأرسخ من أن تعصف بها محاولات يائسة للتفرقة.

ولكي نكون أمناء مع أنفسنا ومع تاريخنا المشترك، لا بد أن نقر بحقائق مؤلمة تكشفت في الآونة الأخيرة. لقد تعرض عدد غير قليل من الإخوة السودانيين البسطاء، الذين دفعهم القدر إلى اللجوء إلى مصر، لعمليات احتيال بشعة على يد سماسرة عقارات عديمي الضمير. هؤلاء استغلوا ظروفهم الصعبة وحاجتهم الماسة إلى المأوى، فخدعوهم وأجَّروا لهم عشرات الآلاف من العقارات بأسعار تفوق قيمتها الإيجارية الطبيعية بأضعاف مضاعفة. هذا الاستغلال لم يقتصر تأثيره على الأشقاء السودانيين فحسب، بل امتدت تداعياته لتلقي بظلالها على المواطنين المصريين أنفسهم، الذين دفعوا الفاتورة لاحقاً في شكل ارتفاع غير مبرر في أسعار الإيجارات وتفاقم في الأزمة السكنية.

الواجب الإنساني ورفض الأكاذيب

وهنا، يصبح لزامًا علينا أن نتوقف لحظة للمراجعة والتقييم. كان الأجدر بنا، بل كان الواجب الإنساني يقتضي، أن نمد يد العون والمساعدة لكل لاجئ سوداني بطريقة أكثر تنظيماً وكرامة، تختلف تماماً عما حدث بالفعل في بعض الأحيان. إن التضامن مع الأشقاء في محنتهم هو مبدأ أصيل في قيمنا وتقاليدنا. كما يجب علينا أن نرفض رفضاً قاطعاً، وأن نتوقف فوراً عن ترديد تلك النغمة الكريهة التي تزعم بأن وجود الأشقاء السودانيين في مصر هو السبب المزعوم وراء الأزمات العقارية والاقتصادية. هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، وهي لا تخدم إلا أجندات بث الفتنة وتقويض التلاحم الوطني. إن الأزمات الاقتصادية لها جذورها وعواملها المتعددة والمعقدة، ومن غير المنصف أو العقلاني إلقاء اللوم على ضيوف اضطرتهم الظروف الصعبة إلى اللجوء إلى وطنهم الثاني. إن تعزيز أواصر الأخوة بين الشعبين يتطلب منا العمل الجاد على معالجة هذه التحديات بشفافية ومسؤولية، والتصدي بحزم لكل من يحاول استغلال الظروف لبث الفرقة. فهل نحن على قدر هذه المسؤولية التاريخية؟

WhatsApp
Telegram