"الضعفاء أهل الجنة" و"المؤمن القوي أحب إلى الله".. هل هناك تناقض بين الحديثين؟

أحاديث صحيحة
أحاديث صحيحة

يثير بعض المتشككين في الإسلام بعض القضايا التي تجعل من يقرأها في حيرة من أمره؛ ولعل أبرز هذه الموضوعات ما يتعلق بالسنة النبوية وأن بها تناقضًا واضحًا بين نصوصها، ومن هذه الأحاديث النبوية التي أثار بها أصحاب الفتن على الإسلام آراءهم حولها حديثين وردا في الصحيحين أولهما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عثل جواظ مستكبر" (متفق عليه). ويقومون الحجة بأن هذا الحديث يشير إلى أن الضعفاء في الجنة والمعنى واضح أن كل ضعيف أي نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا. ومتضعف يعني أن الناس يقهرونه ويستضعفونه ويفخرون عليه لضعف حاله في الدنيا، وقيل المراد أنه يستضعف: أي يخضع لله سبحانه ويذل له نفسه. والحديث الآخر الذين يرونه مناقضا له هو ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رضِيَ الله عنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) رواه مسلم.

يفيد العلامة ابن باز أن المراد بالضعيف مَن نفسُه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا (فتح الباري: [8/663]، بتصرُّف). وقال القاضي: "وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء كما أن معظم أهل النار القسم الآخر وليس المراد الاستيعاب في الطرفين" (شرح النووي على صحيح مسلم: [17/188]). وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد هذا المعنى أي أن أهل الجنة أكثرهم من الضعفاء والمساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقَطُهم وعجَزُهم! فقال الله للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار أنت عذابي أُعذِّب بكِ من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها» (الحديث متفقٌ عليه).

قال النووي في شرحه للحديث: ومعناه يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجبرون عليه، لضعف حاله في الدنيا، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء.

أما القوة في الحديث الآخر هي قوة الإيمان، والعلم، والطاعة، وقوة الرأي والنفس والإرادة، ويضاف إليها قوة البدن إذا كانت معينة لصاحبها على العمل الصالح؛ لأن قوة البدن وحدها غير محمودة إلا أن تُستعمل فيما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال والطاعات ، بل قد تكون سبباً في المعاصي كالبطش بالناس وإيقاع الضرر بهم وحراسة أماكن المنكرات.

من ناحيته قال النووي – رحمه الله - : " والمراد بالقوة هنا: عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك ، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى ، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها، ونحو ذلك " انتهى من " شرح مسلم " ( 16 / 215 ) .

وفي شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "يَنَامُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ قَالَتْ: وَثَبَ " – قال : " قولها " وَثَبَ " أي : قام بسرعة ، ففيه الاهتمام بالعبادة والإقبال عليها بنشاط ، وهو بعض معنى الحديث الصحيح ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) " انتهى من " شرح مسلم " ( 6 / 22 ) .

وقال محمد بن عبد الهادي السندي – رحمه الله -: " قوله (المؤمن القوي) أي: على أعمال البر ومشاق الطاعة ، والصبور على تحمل ما يصيبه من البلاء ، والمتيقظ في الأمور ، المهتدي إلى التدبير والمصلحة بالنظر إلى الأسباب واستعمال الفكر في العاقبة " انتهى من " حاشية السندي على ابن ماجه" ( حديث رقم 76 ).

وسئل الشيخ صالح الفوزان قال: الحديث صحيح ، رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ، ومعناه : أن المؤمن القوي في إيمانه ، والقوي في بدنه وعمله : خيرٌ من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله ؛ لأن المؤمن القوي يُنتج ويَعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية وبقوته العملية ، ينتفعون من ذلك نفعاً عظيماً في الجهاد في سبيل الله ، وفي تحقيق مصالح المسلمين ، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين وإذلال الأعداء والوقوف في وجوههم ، وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف ، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيراً من المؤمن الضعيف ، وفي كلٍّ خير ، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فالإيمان كله خير ، المؤمن الضعيف فيه خير ، ولكن المؤمن القوي أكثر خيراً منه ، لنفسه ولدينه ولإخوانه المسلمين ، فهذا فيه الحث على القوة ، ودين الإسلام هو دين القوة ، ودين العزة ، ودين الرفعة ، دائماً وأبداً يُطلب من المسلمين القوة ، قال الله سبحانه وتعالى ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) الأنفال/ 60 ، وقال تعالى ( ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون/ 8 ، وقال تعالى ( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران/ 139 ، فالقوة مطلوبة في الإسلام : القوة في الإيمان والعقيدة ، والقوة في العمل ، والقوة في الأبدان ؛ لأن هذا ينتج خيراً للمسلمين " انتهى من " المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان " ( 5 / 380 ، 381 ) .

WhatsApp
Telegram