شهدت روسيا مؤخرًا هجمات بطائرات مسيرة استهدفت مواقع عسكرية حيوية، بما في ذلك قرية سريدني في مقاطعة إيركوتسك بسيبيريا ومدينة إنجلس في مقاطعة ساراتوف. هذه الهجمات، وخاصة التي استهدفت سيبيريا لأول مرة، تثير تساؤلات جدية حول فعالية أنظمة الدفاع الجوي الروسية وقدرتها على حماية العمق الاستراتيجي للبلاد.
وتسلط الهجمات المتكررة بالطائرات المسيرة على العمق الروسي، وخاصة الوصول إلى سيبيريا، الضوء على تحدٍ أمني جديد ومعقد يواجه روسيا. على الرغم من امتلاكها لأنظمة دفاع جوي متطورة، فإن طبيعة تهديد الطائرات المسيرة تفرض تحديات مختلفة تتطلب استراتيجيات دفاعية جديدة ومبتكرة. يشير هذا إلى أن الحرب الحديثة تتطور بسرعة، وأن التفوق في الأنظمة التقليدية لا يضمن دائمًا الحصانة الكاملة أمام التهديدات غير المتماثلة والتقنيات الناشئة. إن قدرة هذه الطائرات على الوصول إلى أهداف بعيدة، وتنوع وسائل إطلاقها، يُلزم روسيا بإعادة تقييم شاملة لاستراتيجياتها الدفاعية ونشر مواردها الأمنية.
طبيعة الهجمات ودلالاتها:
يُعد الهجوم على قرية سريدني في مقاطعة إيركوتسك بسيبيريا حدثًا لافتًا، كونه الأول من نوعه في هذه المنطقة البعيدة جغرافيًا عن مسرح العمليات الأساسي (إذا افترضنا أن مصدر الهجوم هو أوكرانيا). هذه المسافة الكبيرة تشير إلى قدرة متزايدة للطرف المهاجم على اختراق المجال الجوي الروسي لمسافات غير مسبوقة. تأكيد حاكم إيركوتسك، إيغور كوبزيف، على إسقاط إحدى الطائرات المسيرة على مبنى قديم، رغم عدم تحديد العدد الإجمالي للطائرات، يوضح أن الهجوم كان جادًا واستهدف منشآت عسكرية. كما أن الكشف عن إطلاق الطائرات المسيرة من 'شاحنة نقل متنقلة' يشير إلى تكتيكات جديدة وغير تقليدية لتجاوز الدفاعات التقليدية، مما يزيد من صعوبة رصدها واعتراضها.
أما الهجوم على مدينة إنجلس في مقاطعة ساراتوف، فهو ليس بجديد كليًا، حيث تضم المدينة قواعد عسكرية حيوية للقوات الجوية الفضائية الروسية، وقد تعرضت لهجمات سابقة. تفعيل أعلى مستويات التأهب في إنجلس يؤكد إدراك السلطات لضعف دفاعاتها أمام هذا النوع من الهجمات المتكررة.
أنظمة الدفاع الجوي الروسية ودورها المزعوم:
تُعتبر روسيا من القوى الرائدة عالميًا في تطوير أنظمة الدفاع الجوي، وقد استثمرت بكثافة في هذا المجال لعقود. من أبرز هذه الأنظمة وأكثرها شهرة:
منظومة S-400 'تريومف' (S-400 Triumf): تُعد هذه المنظومة من أحدث وأقوى أنظمة الدفاع الجوي الروسية. مصممة لاعتراض مجموعة واسعة من الأهداف الجوية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة، صواريخ كروز، الصواريخ الباليستية التكتيكية والمتوسطة، والطائرات المسيرة. تتميز بقدرتها على تغطية مسافات بعيدة (تصل إلى 400 كم) والتعامل مع أهداف متعددة في وقت واحد.
منظومة S-300 (S-300): هي سلف S-400، وتُعد منظومة دفاع جوي فعالة للغاية، قادرة على التعامل مع الطائرات والصواريخ. هناك عدة إصدارات مطورة منها (مثل S-300PMU-2) لا تزال في الخدمة وتوفر حماية جيدة.
منظومات بانتسير-S1/S2 (Pantsir-S1/S2): نظام دفاع جوي قصير ومتوسط المدى، متعدد المهام، يجمع بين الصواريخ والمدافع الرشاشة. مصمم للدفاع عن المنشآت العسكرية والمدنية ضد الطائرات، المروحيات، الصواريخ الموجهة، والطائرات المسيرة. يُعرف بقدرته على التعامل مع الأهداف التي تحلق على ارتفاعات منخفضة جدًا.
منظومات تور-M1/M2 (Tor-M1/M2): نظام دفاع جوي قصير المدى، متنقل، مصمم لحماية القوات البرية والمنشآت من الطائرات والمروحيات والصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة على ارتفاعات منخفضة.
أنظمة الحرب الإلكترونية (EW Systems): تمتلك روسيا مجموعة واسعة من أنظمة الحرب الإلكترونية القادرة على التشويش على اتصالات الطائرات المسيرة وأنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS)، مما يعيق عملها ويزيد من صعوبة توجيهها نحو الأهداف.
فشل أنظمة الدفاع الجوي الروسية: الأسباب المحتملة:
إن تكرار الهجمات بالطائرات المسيرة على العمق الروسي، وتحديدًا في مناطق بعيدة مثل سيبيريا، يشير إلى وجود ثغرات واضحة في الدفاعات الروسية، ويمكن تحليل هذا الفشل من عدة زوايا:
حجم المساحة المراد حمايتها: روسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية. نشر أنظمة دفاع جوي متطورة لتغطية كل شبر من هذه المساحة الشاسعة هو أمر مكلف للغاية وغير عملي. تركز الدفاعات عادة على المواقع الاستراتيجية والحيوية، مما يترك مساحات شاسعة مكشوفة.
طبيعة التهديد الجديد (الطائرات المسيرة):
البصمة الرادارية المنخفضة: الطائرات المسيرة، وخاصة الصغيرة منها والمصنوعة من مواد مركبة، تتمتع ببصمة رادارية منخفضة جدًا، مما يجعل اكتشافها صعبًا لأنظمة الرادار التقليدية المصممة لرصد الطائرات الكبيرة والصواريخ.
الارتفاعات المنخفضة: غالبًا ما تحلق الطائرات المسيرة على ارتفاعات منخفضة للغاية لتجنب الاكتشاف الراداري، مما يجعلها تحديًا لأنظمة الدفاع الجوي المصممة للاستهداف على ارتفاعات أعلى.
التكلفة المنخفضة والتوافر: إنتاج الطائرات المسيرة غير مكلف نسبيًا، ويمكن إنتاجها بكميات كبيرة، مما يسمح بشن هجمات جماعية قد تُشبع الدفاعات الجوية وتُربكها.
تكتيكات الإطلاق: الكشف عن إطلاق الطائرات المسيرة من 'شاحنة نقل متنقلة' يعقد الأمر بشكل كبير. هذه الشاحنات يمكنها التحرك والتخفي بسهولة، مما يجعل تتبع مصدر الهجوم والقضاء عليه أمرًا شبه مستحيل قبل إطلاق الطائرات. هذا يشير إلى أن الهجمات قد لا تكون قادمة من الخارج بالضرورة، بل يمكن أن تنطلق من داخل الأراضي الروسية بواسطة خلايا نائمة أو متعاونين.
توزيع الموارد والتركيز على الجبهات: مع استمرار الصراع في أوكرانيا، من المرجح أن تكون نسبة كبيرة من أنظمة الدفاع الجوي الروسية الأكثر تطوراً قد نُشرت بالقرب من خطوط المواجهة أو لحماية موسكو والمنشآت الحيوية في غرب روسيا، مما يترك مناطق بعيدة مثل سيبيريا عرضة للهجمات.
نقص الكفاءة التشغيلية أو التنسيق: قد لا يكون الفشل في الأنظمة نفسها بقدر ما هو في الكفاءة التشغيلية أو التنسيق بين مختلف وحدات الدفاع الجوي. قد تكون هناك فجوات في التغطية أو أخطاء في التعرف على الأهداف أو الاستجابة لها.
تطور قدرات الخصم: يشير تكرار الهجمات الناجحة إلى أن الطرف المهاجم قد طور قدراته في تصميم وتوجيه الطائرات المسيرة لتجاوز الدفاعات الروسية، سواء من خلال استخدام تقنيات التخفي، أو مسارات طيران معقدة، أو تكتيكات إطلاق مبتكرة.