في قلب العاصمة بانغي، تقف تماثيل تخلد اسم يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاجنر الذي قُتل في ظروف غامضة، وديمتري أوتكين، القائد الأعلى السابق للجيش الروسي. وعلى نصب تذكاري آخر، تتجسد صورة لميليشيات فاغنر وهي تحرس امرأة أفريقية وأطفالها. هذه الصور لا تُعد مجرد منحوتات، بل تختصر رمزية الوجود الروسي المتصاعد في القارة الأفريقية، خاصة بعد الانسحاب العسكري الفرنسي التدريجي من معظم دول الساحل، وكان آخرها السنغال.
تراجع النفوذ الفرنسي وصعود روسيا
بعد حضور استمر 65 عامًا، انسحبت القوات الفرنسية من داكار الأسبوع الماضي، ولم يتبق منها سوى 1500 جندي في جيبوتي. هذا الفراغ الاستراتيجي، بالإضافة إلى شعور العديد من الحكومات الأفريقية بأن التعاون الأمني مع فرنسا لم يحقق لها الاستقرار المرجو، فتح الباب واسعاً أمام روسيا لتوسيع نفوذها السياسي والعسكري. تقول ألكسندرا غرير، المتخصصة في العلاقات الروسية الأفريقية بمنظمة راند الأمريكية، إن التحركات الروسية بدأت تتضح معالمها في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ عام 2017. وقد تسارع الحضور الروسي في دول الساحل بشكل ملحوظ منذ انقلاب مالي عام 2021.
اليوم، تُنشر موسكو متعاقدين عسكريين وجنودًا رسميين في سبع دول أفريقية، وتُقدم استشارات عسكرية لأكثر من ثلاثين دولة أخرى. تُسعى روسيا بوضوح لتصبح الشريك الأمني البديل لفرنسا، مستندة في ذلك على مجموعات مثل فاغنر، التي تُعرف الآن باسم "فيلق أفريقيا".
تأثير الوجود الروسي على الاستقرار والأمن
على الرغم من ادعاءات موسكو بأن عناصرها يشاركون في محاربة المتطرفين وحماية القادة الأفارقة، إلا أن ألكسندرا غرير تؤكد أن وجود فاغنر قد ساهم فعليًا في تدهور الوضع الأمني في بعض المناطق. ففي عام 2024 وحده، سُجل عدد قياسي من القتلى في منطقة الساحل. كما فقدت سلطات مالي السيطرة على مساحات واسعة من أراضيها، بل إن العاصمة باماكو تعرضت لهجوم مباشر، مما يُثير تساؤلات جدية حول فعالية الاستراتيجية الروسية في تحقيق الاستقرار.
حملات التضليل وسرقة الموارد
لا يقتصر النفوذ الروسي في أفريقيا على الجانب العسكري؛ بل يمتد ليشمل حربًا معلوماتية واسعة النطاق. تُكشف دراسة صادرة عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية (التابع لوزارة الدفاع الأمريكية) أن روسيا تقود 80 حملة تضليل إعلامي موثقة تستهدف 22 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 40% من مجمل حملات التضليل في القارة. تشمل هذه الحملات نشر الأخبار المزيفة، وتقويض الثقة بالديمقراطية، وتعطيل الانتخابات، ويُقال إن فرقًا إلكترونية متخصصة، منها "فريق خورخي" الإسرائيلي، تُستخدم في هذا السياق.
الهدف الروسي لا يتوقف عند تشويه صورة الغرب، بل يمتد إلى الاستحواذ على الموارد الطبيعية الغنية في القارة. تعمل موسكو على عقد صفقات مع الحكومات الأفريقية للحصول على الذهب، النفط، الكوبالت، وغيرها من الموارد الاستراتيجية، غالبًا عبر وسائل غير شفافة. تشير غرير إلى أن روسيا سعت إلى السيطرة على مناجم الذهب في مالي، وحثت المسؤولين هناك على طرد شركة كندية كبرى لصالح شركة تعدين روسية. وتُبيّن دراسة للبرلمان الأوروبي أن روسيا حصلت على موارد استراتيجية من عدة دول، أبرزها الذهب والألماس من جمهورية أفريقيا الوسطى، واليورانيوم من ناميبيا، والنفط من السودان. ووفقًا لتقرير استخباراتي أمريكي، جنت روسيا أكثر من 2.5 مليار دولار من ذهب أفريقيا منذ عام 2022، وقد استخدمت هذه الأموال لتمويل حربها في أوكرانيا.
مناطق النفوذ الرئيسية وآليات التمدد
تُعد جمهورية أفريقيا الوسطى مركزًا رئيسيًا للنفوذ الروسي منذ عام 2018، حيث تمكن المرتزقة الروس من السيطرة على بعض مناجم الذهب والألماس. أما في دول الساحل، فقد فتحت سلسلة الانقلابات العسكرية (في مالي عامي 2020 و2021، وفي بوركينا فاسو عام 2022، والنيجر عام 2023) الطريق أمام موسكو لتقديم الدعم مقابل النفوذ. لجأت هذه المجالس العسكرية، التي غالبًا ما تُعبر عن انتقادها للغرب، إلى روسيا للحصول على الدعم العسكري. ووفقًا لوكالة أسوشيتد برس، أرسلت روسيا دبابات ومدفعية ومعدات عسكرية عبر سفن شحن تحمل العلم الروسي من بحر البلطيق إلى غرب أفريقيا، وقد تتبعت الوكالة هذه السفن بالاعتماد على صور الأقمار الصناعية وإشارات الراديو.
تُوضح ألكسندرا غرير أن روسيا لا تمتلك أهدافًا عسكرية مباشرة طويلة الأمد في أفريقيا بقدر ما تعتبر القارة سوقًا حيويًا لصادراتها من الأسلحة، وأداة لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية أوسع. ففي ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها، تسعى موسكو إلى تعويض خسائرها من خلال السيطرة على الموارد المعدنية في أفريقيا، وتقديم الدعم العسكري مقابل المال والنفوذ. هكذا، تُبني روسيا نفوذها الجديد في القارة، ليس فقط من خلال الجيوش النظامية التقليدية، بل عبر استخدام مزيج من المرتزقة، حملات التضليل الإعلامي، وعقد صفقات غير شفافة للموارد المعدنية، مما يُعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسية في أفريقيا.