كشفت وقائع حقيقية من تحقيقات نيابة أمن الدولة، قصة استشهاد المقدم محمد مبروك؛ استنادا أيضا إلى أصدقاء الشهيد، فى الكتاب صادر عن دار المعارف باسم "ضى القمر" للكاتب الصحفى مصطفى بكرى؛ يكشف تفاصيل حياة الشهيد وقصة استشهاده.
ونرصد في الحلقة الرابعة والأخيرة من الوقائع، قصة استشهاد المقدم محمد مبروك، والتي ترصد كواليس علمية الاغتيال، كيف دبر عناصر الجماعة الإرهابية العملية؟.
"التقت المجموعة الإرهابية فى نفس المقهى الذى التقوا فيه من قبل خلف مطعم أخر ساعة بمدينة نصر، كان هناك شخص آخر قد التحق بالمجموعة ويدعى «أبو يوسف»، كان طارق قد تولى عملية تجنيده، وكانت مهمته فى هذا اليوم هى أن يقوم بتغيير لوحتَىِ السيارتين بعد تنفيذ العملية. كان طارق قد استعان باللوحتين اللتين قام المقدم محمد عويس بتغييرهما فى وقت سابق، وسلمهما لكى يتم استخدامهما فى العملية الإرهابية المرتقبة. لقد حضر أبو يوسف إلى نفس المقهى بسيارته «النيسان» السوداء وجلس بالقرب من المجموعة التى ستتولى التنفيذ، يتابع تحركاتهم عن بعد.
فى التاسعة والربع مساءً بدأت المجموعة تتحرك باتجاه منزل محمد مبروك فى شارع قريب من السراج مول بمدينة نصر، أوقف عمرو سلطان سيارته فى مواجهة منزل محمد مبروك لرصده ومراقبته، وقد كان بحوزته أكثر من جهاز موبايل فى هذا الوقت، وإلى جواره جلس أشرف ووسام، بينما توقفت سيارة التنفيذ فى آخر الشارع، وعلى بعد نحو مائة متر من العمارة التى تقع فيها شقته، أما أحمد عزت فقد كان ينتظر فى مكان آخر ليتولى كشف الطريق بعد تنفيذ العملية.
كان الاتفاق يقضى بأن يعطى عمرو سلطان الإشارة لفريق التنفيذ بمجرد أن يهبط محمد مبروك من منزله، ليبدأ التحرك بعدها لتنفيذ عملية الاغتيال.
كانت الحركة هادئة فى الشارع، ولم تكن هناك أى إجراءات أمنية أو رجال شرطة يتواجدون فى المنطقة التى يقطن فيها.. ودَّع محمد مبروك زوجته وأولاده، طلبه منه نجله زياد بأن يأتى له بالشيكولاتة وأن يسلمها للبواب، قبيل أن يذهب إلى عمله، ابتسم مبروك، وأومأ برأسه دليل الموافقة، ووعده بتنفيذ مطلبه قبل أن يغادر إلى عمله.
كانت زوجته رشا تشعر بانقباض شديد فى هذا اليوم، لم تعرف له سببًا، احتضنت زوجها، كما لم تحتضنه من قبل، ودَّعته أمام منزله وظل الباب مفتوحًا إلى أن غادر وهبط فى الأسانسير، ظلت تشير له بيدها مودعة إلى أن اختفى بعيدًا عنها.. أغلقت رشا باب شقتها، نظرت إلى صورته المعلقة على جدار الصالون، بدت كأنها تستعيد ذكريات زواجها من محمد، أمسكت بالهاتف، تحدثت مع والدته، اطمأنت على صحتها، وأبلغتها أن محمد سوف يذهب إلى عمله بعد أن يُحضر الشيكولاتة التى طلبها نجله زياد.. بعد قليل توجه محمد مبروك إلى أحد المحلات القريبة من منزله، جاء بالشيكولاتة، وسلَّمها للبواب الذى طلب منه توصيلها إلى شقته، ثم غادر.
ركب محمد مبروك سيارته، وعلى الفور اتصل عمرو سلطان بالإرهابى محمد بكرى، وقال له: «الهدف نزل من بيته، وعليك أن تتحرك نحوه فورًا»، وبسرعة البرق تحركت سيارة الإرهابيين المنوط بها التنفيذ، وفجأة وجدوا أنفسهم فى مواجهة سيارة محمد مبروك الذى كان يقود السيارة بنفسه ودون حراسة ترافقه.
أصبحت سيارة محمد مبروك على شمال سيارة التنفيذ، ولم يكن ممكنًا أن يطلق فهمى وكيمو الرصاص عليه، لأنهما حتمًا كانا سيصيبان محمد عفيفى ومحمد بكرى الذى يتولى القيادة.
كان محمد عفيفى ممسكًا بالكاميرا الديجيتال فى يديه داخل السيارة يستعد لتصوير عملية الاغتيال لإذاعتها فى وقت لاحق، لاحظ محمد مبروك أن هناك مَنْ يتربص به، حاول الفكاك سريعًا، فدخل فى أحد الشوارع الجانبية.
كان هناك شارع يقع على يمين سيارة الإرهابيين، توجهوا نحوه بسيارتهم، ثم دخلوا باتجاه يمين فى يمين حتى يلحقوا بسيارة محمد مبروك. فجأة لمحوا السيارة المستهدفة، فطاردوها حتى أصبحوا على يسارها، وأصبحت سيارة الهدف على يمين سيارة المهاجمين.
وعلى الفور قام الإرهابيان فهمى وكيمو بإطلاق الرصاص على محمد مبروك من أسلحتهما الآلية، وتواصل الضرب لفترة من الوقت، حتى سقط مبروك شهيدًا بعد أن انهمرت على جسده نحو اثنتى عشرة طلقة فى صدره ورأسه ووجهه، هبط عمرو سلطان من سيارته، تأكد من وفاته، وغادر على الفور.
كان محمد عفيفى قد تمكن من تصوير الحادث بالكاميرا التى كانت معه، لكن التصوير لم يكن دقيقًا بسبب الظلام الذى كان يحلُّ بمنطقة الحادث، حيث كانت الساعة قد بلغت نحو العاشرة والنصف تقريبًا من مساء ذات اليوم.
كانت أصوات الرصاص مدوية، هرع سكان المنطقة إلى النوافذ، يتابعون ما يحدث، لم يتبينوا ملامح الموجودين بالسيارة جيدًا وإن كانوا قد التقطوا بعض أرقامها. توجه طارق بسيارة التنفيذ باتجاه الطريق الدائرى، واتصل على الفور بـ«أبو يوسف» الذى أوكل إليه مهمة تغيير لوحتى السيارتين، فتوجه أبو يوسف بسيارته إلى حيث المكان المشار إليه، التقاهم فى طريق جانبى تم الاتفاق عليه مسبقًا، وقام بتغيير لوحتَى السيارتين: سيارة التنفيذ وسيارة الرصد التى كانت تتبعها.
وبعد أن انتهى أبو يوسف من مهمته، مضت السيارتان كل إلى حال سبيلها، وبالقرب من إحدى فتحات الطريق الدائرى بمنطقة التجمع الخامس تم إنزال محمد عفيفى الذى ركب سيارة ميكروباص من هناك لينزل فى منطقة الحى العاشر بمدينة نصر، أما فهمى وكيمو فقد نزلا أيضًا واستقلا الميكروباص المتجه إلى منطقة الجيزة. اتصل محمد عفيفى هاتفيًا بعضو التنظيم أنيس إبراهيم، حيث اتفقا على المقابلة فى الحى العاشر، كان أنيس يعرف أن محسن والمجموعة ذهبوا لاغتيال أحد الضباط، إلا أنه لم يعرف اسم الضابط أو هويته، فقد انحسرت مهمته فى توصيل محمد عفيفى إلى مدينة نصر يوم الحادث إلا أنه لم يشارك فيه.
وفى هذا الوقت كان محمد بكرى قد اتجه بسيارته نحو منطقة التجمع الخامس، وكان أحمد عزت يتقدمه بمسافة لكشف الطريق ومعرفة الكمائن، حتى يتمكن من تحذيره فى الوقت المناسب، خاصة أن السيارة كانت تحمل الأسلحة التى جرى تنفيذ الحادث الإرهابى بها. كان أحمد عزت يقود سيارته النيسان السوداء، وكان على علم بأن العملية استهدفت قتل المقدم محمد مبروك، فتم الاتفاق على أن ينتظر المجموعة خلف مسجد السلام القريب من موقع الحادث حتى يتولى تأمين الطريق بالنسبة لهم. وبعد أن قام محمد بكرى بإنزال مَنْ معه، اتجه خلف أحمد عزت باتجاه طريق ميراج سيتى، وهناك فى المسافة ما بين الرحاب والتجمع الأول بالقاهرة الجديدة تم ترك السيارة فى مكان ليس ببعيد عن منزل أحمد عزت. وبعد أن هبط طارق من السيارة، تولى جمع الأسلحة والفوارغ داخل إحدى الشنط، وقام بوضعها فى شنطة السيارة، وطلب من أحمد عزت أن يذهب إلى منزله وينتظر اتصالًا هاتفيًا منه فى أى وقت. وفى اليوم التالى سلَّم طارق السيارة بالأسلحة التى تحملها إلى أحمد عزت حتى يقوم بإخفائها فى فيلا أخرى يمتلكها فى التجمع الخامس، بينما ذهب هو إلى شقة كان قد استأجرها فى إسكان الشباب بالتجمع الأول.
بعدها تلقى محمد بكرى اتصالًا من محمد عفيفى يبلغه فيه بضرورة السفر إلى زعيم التنظيم (أبو عبد الله) فى الإسماعيلية، حيث سيكون فى انتظاره بعد أن يقوم أحد الأعضاء بتوصيله إلى المكان الذى يقيم فيه. ركب محمد بكرى السيارة الفيرنا الرمادى المملوكة لأحد الأعضاء ومرَّ أثناء سفره على مزرعة محمد فتحى الشاذلى بالقرب من مدينة العاشر، لكى يصطحبه أحد الأعضاء إلى المكان الذى يقيم فيه (أبو عبد الله) بالإسماعيلية. وهناك التقى بشريف وياسر اللذين كان لهما دور فى محاولة اغتيال وزير الداخلية محمد إبراهيم، وعاد بهما إلى منطقة التجمع الخامس حتى يدلَّهما على منزل العميد هشام وهدان الذى يقطن فى حى الياسمين، وكان مطلوبًا اغتياله أو خطفه، لمقايضته بالإفراج عن جميع النساء المنتميات للتيار الإسلامى. وبعد أن تعرفوا على الفيلا عادوا جميعًا مرة أخرى إلى المزرعة، ثم سرعان ما توجهوا إلى مدينة الإسماعيلية لمقابلة «أبو عبد الله» وتسليمه شريط الفيديو الذى جرى تصويره أثناء عملية اغتيال المقدم محمد مبروك.
كانت قوات الأمن قد وصلت إلى مكان الحادث، حيث أصابت الصدمة الكثيرَ من الضباط بعد أن رأوا زميلهم محمد مبروك صريعًا فى سيارته، وسادت حالة من الحزن والذهول أبناء المنطقة الذين شاهدوا الحادث عن قرب، وكان أول من وصل إلى هناك هو زميله الضابط (عمرو مصطفى) الذى احتضن جثمانه وأشرف على نقله إلى مستشفى الشرطة.
كان على ناصية الشارع الذى وقعت فيه الحادثة كشكان، أحدهما كشك للفاكهة والآخر لبيع بعض المنتجات الغذائية، وقد رصد العاملون فيهما أوصاف السيارة، وأدلوا بشهادتهم للجهات الأمنية المختصة التى سارعت إلى مكان الحادث.. تم تشكيل فريق أمنى على أعلى مستوى شاركت فيه عناصر من الأمن الوطنى ومدير مباحث القاهرة ومدير الأمن العام، وبدأ هذا الفريق اجتماعه الأول باستعراض الحادث، والاحتمالات الواردة بشأنه.
كانت المعلومات الأولى قد تركزت حول أوصاف السيارة فى ضوء أقوال الشهود، وخط سيرها فى ضوء الكاميرات الموجودة ببعض الشوارع والميادين القريبة من الحادث، والتى تم إفراغها.. قدَّم جهاز الأمن الوطنى معلومات حول الأشخاص الذين تدور حولهم الشبهات من العناصر الإرهابية، وتم عرض الصور على الشهود.. وقدم مدير الأمن العام قائمة بالسيارات المسروقة والأوصاف المطابقة للسيارة التي تم الإبلاغ عنها، وبعض أرقامها التى تم التقاطها من شهود الحادث.
بدأت المعلومات تتدفق من كافة الجهات الأمنية المعنية، بحث فى كل مكان، مناظرة لمنطقة الحادث أكثر من مرة، فحص لأسماء مَنْ تدور حولهم الشبهات، الحصول على إذن من نيابة أمن الدولة لمراقبة هواتفهم، ومحاولة التقاط أى مؤشرات تدلل على المتورطين فى ارتكاب الجريمة. المحامى العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا يعاين بنفسه مسرح الحادث، وفريق من النيابة يتولى رصد كل كبيرة وصغيرة، التحقيقات تبدأ بالاستماع إلى الشهود ورجال الأمن.
كانت والدة محمد مبروك تجلس فى منزلها إلى جوار زوجها (المصاب بالشلل) وقد بدا عليها النعاس، طلب منها زوجها أن تخلد إلى النوم، وقبيل أن تتوجه إلى غرفتها، دق جرس الهاتف المحمول، وكان عبد الله خطَّاب عم ابنها وشقيق زوجها، يتحدث، لقد سألها عن نجلها محمد مبروك، صمتت الأم لبعض الوقت وسألته: وما المناسبة؟، فتلعثَّم فى الكلام فى بداية الأمر وقال لها وهو فى حالة ارتباك: لقد أحببت أن أسألك عليه وفقط، هنا بادرته الأم: وهل سمعت شيئًا عن محمد؟ فلم يُجِبِ العم والتزم الصمت، ثم طلب منها أن تتصل به، فسألته: وهل حدث له مكروه؟، فقال لها: فقط اطمئنى عليه.. شعرت الأم بأن هناك شيئًا ما لا يريد الإفصاح عنه، وأن هذا الاتصال ليس بريئًا، فقامت على الفور بالاتصال بهاتف نجلها محمد، فردَّ عليها أحد الضباط، فبادرته بالطلب أن تحدِّث ابنها، فأجابها بقوله: حاضر يا ماما، ولكن محمد مشغول وسيحدثك بعد قليل.. قالت الأم على الفور: ابنى مات، ابنى مات، وسقطت مغشيًا عليها، بينما الأب (المشلول) فى حالة ذهول وهستريا.
كانت وزارة الداخلية قد أصدرت فى هذا الوقت بيانًا نعت فيه استشهاد المقدم محمد مبروك، فهزَّ النبأ أرجاء البلاد، خاصة بعد الكشف عن هويته ودوره فى كشف جماعة الإخوان ومخططاتها، ساد الحزن العميق بين رجال الشرطة، خاصة زملاءه ومَنْ يعرفونه جيدًا.. عندما علمت زوجته باستشهاده، لم تصدق، أصابتها الصدمة، هرعت إلى الشارع، تصرخ صراخًا مكتومًا، كان الأبناء قد أوى كل منهم إلى غرفته للنوم، عرفت أنه تم نقل الجثمان إلى مستشفى الشرطة بمدينة نصر، شعرت بأن الحياة قد توقفت، سألت نفسها: ماذا ستقول لأبنائها؟ وكيف يستطيعون تحمل الخبر الصادم؟ وكيف ستمضى الحياة من بعد رحيل زوجها؟.
بعد قليل وصلت إلى المستشفى، كان الجسد مسجى فى الثلاجة، ألقت بجسدها عليه، وكانت أم محمد مبروك قد انزوت فى أحد أركان الصالة المواجهة للمشرحة فى حالة انهيار شديد، وإغماءات تتكرر بين الحين والآخر، بينما تركت والده غائبًا عن الدنيا فى منزله وكأنه لا يرى أمامه سوى صورة ابنه.. ظلت الأم إلى جوار ابنها، صممت على أن تبقى أمام الثلاجة التى تضم الجسد الطاهر، الدموع لا تفارقها، والصرخات المكتومة تكاد تذهب بحياتها، لقد فقدت كل شىء فى هذه الحياة.. أما الزوجة فظلت حتى الصباح تُهذى بكلمات غير مفهومة، إنها ما زالت تحت وقع الصدمة، فالزوج كان بالنسبة لها كل شىء، وهى لا تصدق حتى الآن أنه فارقها إلى الأبد.
وقبيل شروق الشمس بقليل، كانت الأم قد قررت العودة لأبنائها حتى لا يفاجأوا بغيابها، لقد قررت إخفاء الخبر عنهم، حتى انتهاء امتحاناتهم. مضت الأم إلى منزلها، عم عبده البواب يتقدم نحوها مطأطئَ الرأس، يسدى إليها بكلمات تخفف من حزنها، لكنها تتجه نحو الأسانسير وكأنها لا تسمع إلا صوته هو، ولا ترى إلا صورته وحده فقط.. فتحت رشا الباب بهدوء، دخلت إلى الصالة، نظرت إلى صورة زوجها، لم تتمالك نفسها، وراحت تجهش بالبكاء، جففت دموعها، وتسللت إلى غرف أبنائها كما تفعل كل صباح، حتى يستعدوا للذهاب إلى مدرستهم فى الأتوبيس الذى يتوقف فى السادسة والنصف من صباح كل يوم أمام منزلهم.
ظنت زينة أن والدها مازال فى سريره، بادرتها أمها بالقول إن والدها غادر فى مهمة عمل إلى جنوب إفريقيا، وإنه سيعود خلال أيام قليلة، كان الخبر عاديًا بالنسبة لزينة، إلا أن زياد قال لوالدته: ولماذا لم ينتظر حتى نستيقظ ونقوم بتوديعه؟ لكن الأم بادرته بالقول إن والده قد غادر المنزل فى الثالثة صباحًا، وانهمرت فى البكاء، وعندما سألها الأبناء عن سر بكائها، قالت إنها تبكى بسبب غيابه المستمر عن منزله، فحاول الأبناء الثلاثة تهدئتها.. غادر الأبناء المنزل إلى مدرستهم بعد أن لحقوا بالباص المدرسى الذى جاء فى موعده المحدد، نظر إليهم البواب، وأدرك أن الأم لم تبلغهم بالأمر فتحاشى الحديث معهم.
فى ظهر يوم الإثنين الثامن عشر من نوفمبر أقيمت جنازة عسكرية بعد أداء صلاة الظهر من مسجد الشرطة بالدرَّاسة.. لقد تقدم الجنازة رئيس الوزراء حازم الببلاوى ووزير الداخلية محمد إبراهيم وعدد كبير من الوزراء وكبار المسئولين ورجال الجيش والشرطة والمواطنين.
كانت والدة محمد مبروك فى حالة من الانهيار الشديد لا تصدق أن ابنها الوحيد قد فارقها إلى الأبد.. رشا تمسك بذراعها من ناحية، وقريبة لهم أمسكت بذراعها من الناحية الأخرى. كانت رشا تحاول أن تحبس دموعها، لكن الدموع لا تتوقف، كانت تنظر إلى المجهول، غير مصدقة، تتذكر زوجها فى اللحظات الأخيرة، وهو يحتضنها ويغادر إلى خارج المنزل بسرعة، ليشترى الشيكولاتة لابنه زياد بعد أن تأخر عن موعده المعتاد فى هذا اليوم. لم تكن تعرف أن تلك هى المرة الأخيرة التى تلقى فيها زوجها، أمعنت النظر فى النعش الذى يحمل الجثمان الملفوف بعلم مصر، وقد وُضع على عربة مدفع، تجرُّها الخيول السوداء بينما تنطلق الهتافات «لا إله إلا الله، الإرهاب عدو الله».
تحرك الموكب الجنائزى ببطء على أنغام الموسيقى العسكرية، بينما غاب عنه المقدم محمد عويس، بعد انتهاء مراسم الجنازة والدفن وتلقى العزاء عادت الأم والأب إلى منزلهما، وعادت رشا ومعها والدتها إلى منزلها، حاولت رشا أن تجفف دموعها قبيل الدخول إلى المصعد، بينما كان عم عبده البواب يبدو حزينًا، مطأطئ الرأس وهو يحاول أن يخفف من آلام الزوجة المكلومة.
تقدمت رشا نحو الباب، أخرجت مفتاحًا من حقيبتها، بدت كأنها مترددة فى الدخول، كل جزء فى شقتها يذكِّرها بحلم عمرها الذى اختُطف منها فجأة، نظرت إلى كرسى محدد فى الصالون، وقالت لنفسها: هنا كان يجلس محمد، نظرت إلى المائدة وقالت: وهنا كان يتناول طعامه مع أبنائه، التفتت إلى صورته ودققت النظر فى عينيه، كأنه يناجيها، انهمرت الدموع الساخنة من عينيها، القت بجسدها على الكرسى ودفنت وجهها بين يديها. تقدمت نحوها والدتها، حاولت أن تخفف عنها، لكنها فشلت، فالجرح كان عميقًا، والمصاب كان جليلًا.
وصل الأتوبيس القادم من المدرسة إلى العمارة، هبط الأبناء الثلاثة «زينة ومايا وزياد»، اتجهوا إلى بواب العمارة الذى كان يجلس حزينًا، ألقوا عليه السلام، قال لهم: شدوا حيلكوا يا ولاد، أبوكوا كان راجل.. لفتت الكلمات انتباه زينة، تقدمت نحوه ببطء شديد وقالت بلغة يبدو فيها القلق والدهشة: فيه إيه يا عم عبده؟ أدرك عم عبده أنه قد تورط فى إبلاغ الأبناء، حاول إصلاح الموقف، لكن زينة أدركت المعنى، مضت مسرعة وخلفها مايا وزياد، صرخت دون أن تدرى: بابا.. بابا.. انهمرت الدموع من عينَىْ زياد، تلعثمت الكلمات، أصيبت مايا بحالة من الصمت والذهول، بسرعة البرق، هرعوا إلى المصعد، وفى دقائق، كانوا أمام باب شقتهم. ضغطت زينة على جرس الباب بشكل متواصل، فتحت الأم، قالت زينة وقد أصابتها حالة انهيار: باب فين يا ماما.. بابا فين؟ قالت مايا: باب مات يا ماما.. بابا مات. صرخ زياد بكل قوة: يا حبيبى يا بابا.. ليه.. ليه؟ أسند جسده على الحائط المجاور باكيًا بحرقة شديدة. - قالت زينة (مناشدة): ماما.. قوليلى.. حصل إيه؟! - توجهت إلى جدتها - قوليلى يا نينة.. بابا مات.. تتقدم رشا ببطء محتضنة أولادها الثلاثة، تخاطبهم باكية: كفاية يا ولاد.. كفاية، أبوكم مات بطل، أبوكم شهيد.. يطلق الجميع فى صوت واحد صرخات متناثرة: بابا.. يا حبيبى يا بابا.. حرام والله حرام.. ليه.. ليه؟ يتقدم نحوها زياد متوسلًا: مين قتله.. مين.. وليه قتلوا بابا؟. تحاول رشا أن تتماسك، لكن قوتها تنهار أمام صرخات الأبناء، وتهرع سريعًا إلى غرفة نومها وكأنها تستعيد ذكرياتها، تمسك بصورة الزفاف التى ضمَّتها معه، تبدو وكأنها تناجيه بالعودة من جديد، تلقى بجسدها المنهك على السرير وتمسك بالوسادة وكأنها تحتضنه، بينما نحيب الأولاد يكاد يخرق أذنيها..
وفى منزل والديه كان الموقف لا يقل صعوبة، تقدمت الأم نحو الأب الغارق فى أحزانه وقالت: «ربنا عاوز كده، محمد شهيد.. شهيد من أجل مصر». الأب ينظر إليها، تمسح الأم دموعه وتقول: بكره نروح له يتشفع لنا، محمد فى الجنة يا حاج.. يضع يده على وجهها، يحاول مسح دموعها ويقول: فاكرة لما كان عريس، فاكرة كنت فرحانة إزاى، فاكرة قلتى إيه، تغمض الأم عينيها، تتذكر نجلها الوحيد محمد، وهو فى كوشة الفرح، ليلة زواجه من رشا، كان محمد فرحًا، سعيدًا، صمم على التقاط أكبر قدر من الصور مع والدته ووالده، كان يقول لأمه دومًا: أنا عايش بدعاكم يا أمى.. تتلاشى صورة محمد من أمام وجهها تدريجيًا، تتغير ملامح وجهها، تدفع بكرسى زوجها إلى البلكونة، تقول فى لهفة: عاوزة أشم هوا يا حاج، حاسة أنى مخنوقة. يدخلان إلى البلكونة، ينظران إلى السماء، يطل وجه محمد من جوف الغيوم الملبدة، وكأنه يقول لهما: لا تقلقان فأنا هنا، حيث الحياة الأبدية، وحيث الراحة النفسية.
كان الحزن يخيم على زملائه فى جهاز الأمن الوطنى، كان رهانهم على الوصول للقتلة هو التحدى الأكبر، كانوا يربطون الليل بالنهار، يستجوبون العديد من الإرهابيين، للوصول إلى حقيقة ما جرى، كانوا يتذكرون خفة ظله، وقدرته الفائقة على العمل المتواصل، وحب زملائه ورؤساءه له، لقد شعروا الآن بأنهم فقدوا قيمة كبيرة وشخصية متميزة، لكنهم كانوا يدركون أن محمد مبروك كان مستهدفًا، ومع ذلك لم يتطرق الخوف إلى قلبه فى أى يوم من الأيام، كانت كل المعلومات الأولية تشير إلى تنظيم أنصار بيت المقدس وتحمله مسئولية الحادث، وكان الجميع يأمل فى الوصول للقتلة قبل أن يعلن التنظيم مسئوليته.
كان محمد بكرى قد انهى لقاءه مع زعيم التنظيم (أبو عبد الله) بعد أن سلمه فيديو عملية الاغتيال، لقد طلب (أبو عبد الله) من الضابط المفصول المكنى (شريف) أن يصطحب المجموعة للتنسيق معهم عن أحد أعضاء التنظيم بالإسماعيلية. قام محمد بكرى بقيادة السيارة (الفيرنا) وإلى جواره المكنى (ياسر) ومعه كلاشينكوف وخزنتين وخلف ياسر جلس الضابط المفصول (شريف) ومعه أيضًا كلاشينكوف وخزنتين. قصدوا جميعًا أحد الطرق الزراعية البعيدة عن رقابة الأمن وبعد أن دخلوا إلى عمق الشارع فوجئوا بمدرعتين للقوات المسلحة تراقبان على جانبى الطريق الزراعى.
كان محمد بكرى يظن أن المدرعتين ستتحركان عبر الطريق فشاور لهما بالمرور، فإذا بضابط جيش ينزل من إحدى المدرعتين وحوله عدد من الجنود، وقام بشد أجزاء السلاح الذى كان بحوزته، فحاولت سيارة الإرهابيين الهروب عبر العودة من نفس الطريق، فأطلق الضابط الرصاص على السيارة بعد أن شعر أن بداخلها عناصر إرهابية، وعلى الفور قاما ياسر وشريف بإطلاق الرصاص من أسلحة الكلاشينكوف بشكل عشوائى حتى تتمكن سيارتهم من الهروب، غير أن قوات الجيش أصابت السيارة بطلقات من الرصاص.
حاول الإرهابيون الهروب سريعًا، إلا أن السيارة توقفت بهم فجأة بعد أن ابتعدوا عن المدرعتين، تركوا السيارة وأسرعوا فى وسط المزارع، وغابوا عن أعين رجال الجيش الذين عثروا على السيارة وتوصلوا إلى اسم صاحبها الأصلى ويدعى أسامة وكنيته (سامح)مما استدعى من (أبو عبد الله) تنحيته عن العمل التنظيمى بعد ذلك.
كان رجال جهاز الأمن الوطنى فى سباق مع الزمن، لقد توصلوا إلى خيوط حتمًا ستؤدى إلى الإيقاع بالقتلة، لقد جرى تحديد هوية السيارة التى استقلها الإرهابيون فى تنفيذ الحادث. بدأت عمليات الفحص والمتابعة، ومن خلال التحقيقات التى أجرتها الجهات الأمنية مع بعض المقبوض عليهم وبعض المحبوسين على ذمة عدد من القضايا، تم التوصل إلى بعض المتورطين فى ارتكاب الجريمة.
كان أحمد عزت شعبان (أبو يوسف) الشاب الثرى واحدًا من أبرز هؤلاء، كان أحمد عزت هو الذى يتولى تقديم الدعم المالى للعمليات الإرهابية التى تنفذها هذه المجموعة، وكان يقوم أيضًا بتهريب الأسلحة وتخزينها فى فيلته فى الرحاب.. وكان أحمد عزت شاب عادى، يذهب إلى المقاهى والكافيهات، ويشرب الشيشة ويجالس السيدات، ولم يكن يظهر عليه أى مظهر يؤكد أنه ينتمى إلى جماعة إرهابية.
كان يركب دومًا سيارات أحدث موديل، ويقضى الصيف مع زوجته وولديه فى منتجعات خارج البلاد أو فى مارينا، حيث يمتلك فيلا هناك. وكانت زوجته متحررة، ترتدى أحدث الملابس وسيدة مجتمع من الدرجة الأولى، لها معارفها وصديقاتها وتشارك فى الحفلات وأعياد الميلاد والمناسبات العامة، ولم تكن أبدًا متزمية أو متطرفة بأى حال من الأحوال. باختصار لا أحد يستطيع أن يتخيل فى هذا الوقت ولو للحظة أن أحمد عزت شعبان هو أحد أبرز الإرهابيين الذين شاركوا فى قتل المقدم محمد مبروك وبعض الأحداث الإرهابية الأخرى. بدأ رجال الأمن التحرى حول مسكنه، حصلوا على إذن من نيابة أمن الدولة العليا بمتابعته والقبض عليه، توصلوا عبر التصنت على هاتفه إلى معلومات مهمة وخطيرة.
لم يكن أحمد عزت شعبان يتصور أن جهات الأمن قد توصلت إلى معلومات تكشف عن دوره، كان تحركاته محدودة، ولم يكن معروفًا إلا لقلة من قيادات التنظيم. لقد كشفت التحريات أن أحمد عزت شعبان يسكن فى فيلا ضخمة بمدينة الرحاب بالقاهرة الجديدة، كما أنه يمتلك فيلا أخرى فى التجمع الخامس.. تم إرسال عدد من رجال الأمن السريين لمراقبة مسكنه عرفوا فى البداية أنه قد سافر إلى منتجع «مارينا» بعد الحادث ثم سرعان ما عاد من هناك.. وكانت زوجته قد لاحظت قلقه الشديد وتوتره بعد الحادث، فسألته عن السبب، فقال لها: إن أعصابه متوترة فنصحته بالسفر إلى مارينا لقضاء بعض الوقت، فاستمع إلى نصيحتها وغادر على الفور. تلقى أحمد عزت اتصالًا تليفونيًا من محمد السيد منصور (أبو عبيدة) بالعودة إلى القاهرة لتسليم البضاعة، وكان يقصد الأسلحة، فعاد على الفور ليقوم بالمهمة المطلوبة منه.
وفى يوم الجمعة التاسع والعشرين من نوفمبر 2013 أى بعد اثنى عشر يومًا على الحادث، كانت قوات الأمن تزحف فى هدوء وتحاصر الفيلا.. كان هناك العشرات من الضباط ورجال الأمن المركزى والعربات المدرعة تحاصر الفيلا من كل اتجاه.. أسرعت الزوجة إلى زوجها تبلغه بأن هناك قوات أمن ضخمة تحاصر الفيلا.. انتفض أحمد عزت من نومه، قام على الفور بفتح دولاب داخل غرفته، أخرج رشاشًا وذهب يتسلل لينظر من خلف ستار متابعًا القوات التى زحفت إلى منزله.
عاد أحمد عزت إلى الدولاب مرة أخرى، أخرى عدة خزن من الرصاص وراح يأخذ لنفسه ساترًا خلف أحد المنافذ. أدركت الزوجة خطورة الموقف، أصيبت بحالة من الذهول، لقد اكتشفت فجأة أن زوجها خارج على القانون، الآن بدأت تفسر سر غيابه وسر تردد بعض الضيوف عليه، وأسباب توتره خلال الأيام الماضية. نودى على المتهم بالاستسلام من خلال مكبرات الصوت بعد أن بادرهم بدفعة من رصاص الرشاش الذى يمسك به، كان يقود الحملة ضابط برتبة لواء، ردد الضابط الكبير النداء مرة أخرى، لكن أحمد عزت رد بإطلاق الرصاص.
كانت الزوجة تصرخ عندما بدأت قوات الأمن فى إطلاق الرصاص التحذيرى، بينما كان الطفلان ينتحيان فى أحد جوانب الفيلا فى حالة رعب وبكاء شديدين. طلبت الزوجة من زوجها الاستسلام، فرفض بكل إصرار، وكادت تبوس على قدميه أن ينقذ نفسه وينقذ الأسرة، خاصة بعد أن سددت قوات الأمن ضربات متلاحقة كادت تصيب الزوجة، لكن أحمد عزت رفض ذلك بكل شدة.
كررت الزوجة طلبها، لم تجد أذانًا صاغية من زوجها، قالت له فليتركها هى وطفليها للخروج خوفًا على حياتهم، لكنه أمسك بهم وقال: أى أحد هيتحرك سأطلق عليه الرصاص. كانت التعليمات الأمنية تقضى بالحرص على حياة الزوجة والطفلين، والإبقاء على الحصار لحين استسلام المتهم، الذى يتخذ من زوجته وطفليه دروعًا للحماية.
ظل إطلاق الرصاص متبادلًا بين أحمد عزت وقوات الأمن المحاصرة، بدأت قوات الأمن تضيق الخناق، حاصرت المتهم من كل اتجاه، بعد أن شعر بالإنهاك وأمام إلحاح زوجته وطفليه، اضطر أن يعلن أنه قد قبل بالاستسلام ويطلب الأمان، القى بسلاحه رافعًا يديه، تم اقتياده إلى إحدى سيارات الشرطة التى توجهت به على الفور إلى مبنى جهاز الأمن الوطنى فى مدينة نصر. دخلت القوات إلى الفيلا، تم سؤال زوجته، قام الضباط والجنود بتفتيش الفيلا، عثروا على أسلحة عديدة ومتنوعة، قاموا بتحريزها على الفور، وكان معهم أحد رؤساء نيابة أمن الدولة العليا الذى سجل كل ما تم العثور عليه فى محضر التحقيق.
مضت سيارة الشرطة وسط حراسة أمنية مشددة إلى مبنى الأمن الوطنى بمدنية نصر، بينما تم إلباس الإرهابى بالقيد الحديدي فى معصمه. كان أحمد عزت يبدو عليه الإرهاق الشديد، كان مذهولًا، زائغ العينين، يهذي بكلمات غير مفهومة، يحذر من المساس بزوجته وطفليه، ويقول لمرافقيه أنه مستعد للإدلاء بكل المعلومات شريطة ألا يقترب منه أحد.بمجرد وصول سيارات الشرطة إلى مبنى الأمن الوطنى بمدينة نصر، قام عدد من الضباط باصطحابه إلى غرفة واسعة بالدور الثالث، وتم التحقيق معه استعدادًا لعرضه على نيابة أمن الدولة العليا فى اليوم التالى.
طلب أحمد عزت كوبًا من الشاى، والسماح له بتدخين سيجارة، فتم الإذن له، كان السؤال الأساسى الموجه له، نريد أن نعرف منك كلى شىء، احكى لنا بالتفصيل، أشعل ضابط كبير عود كبريت، وقدم السيجارة إلى المتهم، وقال له: لو كنت صادقًا احكى لى كل شىء، ولو كذبت فلن نثق فيك. أمسك أحمد عزت بالسيجارة، أخذ نفسًا عميقًا، وارتشف بعضًا من الشاى الذى قدم إليه وراح يحكى حكايته مع التنظيم ودوره فى عملية اغتيال محمد مبروك واعترف تفصيليًا عن الأسلحة المكدسة فى فيلا التجمع الخامس والأسماء التى شاركت فى تنفيذ عملية الاغتيال، وقال أن السيارتين اللتان جرى بهما تنفيذ عملية اغتيال محمد مبروك موجودتان فى فيلا التجمع الخامس.. كانت المفاجأة المدوية التى القى بها أحمد عزت فى وجه الحاضرين عندما كشف دور المقدم محمد عويس والذى كان قد انتقل من وحدة الوايلى للمرور إلى رئاسة وحدة القطامية فى هذا الوقت فى عملية الاغتيال. قال أحد الحاضرين من الضباط مبادرًا: كيف ذلك والمقدم عويس صديق المقدم مبروك، وكان موجودًا فى جنازته وعزائه.
وروى أحمد عزت تفاصيل تجنيد التنظيم لمحمد عويس واللقاءات التى جرت بينهما، وكيف ساعدهم فى تقديم المعلومات الكافية من واقع سجلات المرور عن عدد من الضباط، كان فى مقدمتهم وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم والمقدم محمد مبروك. سأله أحد الضباط: وماذا يدعوه لفعل كل ذلك؟ قال أحمد عزت بكل ثقة: لقد كان عضوًا فى التنظيم، ولكننا ساعدناه وقدمت له أنا شخصيًا حوالى 2 مليون جنيه اشترى بها فيلا فى التجمع الخامس. راجع أحد الضباط الفنيين هاتف أحمد عزت عثر بالفعل على رسالة من المقدم محمد عويس إلى أحمد عزت عندما سافر الأخير إلى مارينا فى أعقاب حادث الاغتيال، قال له فيها: «الاتفاق اللى بينا مكانش كده، متروحش مكان بعيد، وعيش حياتك طبيعى»، وقال إنه بمجرد أن جاءته هذه الرسالة، إضافة إلى طلب آخر من (أبو عبيدة) قرر العودة فورًا إلى الفيلا الخاصة به فى الرحاب، وقام بالتخلص من سيارة زجاجها مكسور، أبعدها من فيلا الرحاب إلى فيلا خاصة به فى التجمع الخامس. حصل فريق المحققين الأمنيين على إذن من نيابة أمن الدولة بمراقبة هاتف المقدم محمد عويس، والقبض عليه.. ظلت المراقبة لعد أيام، تأكد رجال الأمن صحة أقوال أحمد عزت، ثم سرعان ما ألقوا القبض عليه فى الشارع مساء يوم الجمعة، فى البداية حاول الإنكار، وقال كيف أخون صديقى، وعندما تم مواجهته بأقوال أحمد عزت، إنهار واعترف بكل شىء.
كانت زوجته قد فوجئت باختفائه، يبدو أنها كانت على يقين أنه تم القبض عليه بواسطة الجهات الأمنية، وفى صباح السبت كانت الزوجة تكتب على صفحتها على «الفيس بوك» تقول: «السلام عليكم، أنا زوجة المقدم محمد عويس، أريد أن أبلغكم أن زوجى قد اختفى، ولا أعرف عنه شيئًا منذ مساء الجمعة، وترك بنته وأسرته، ولا أعرف عنه أية أخبار حتى الآن، أرجو المساعدة، وإبلاغى بكل المعلومات عن سبب اختفائه».
فى هذا الوقت رد عليها أحد أعضاء جماعة الإخوان على صفحتها قائلًا: «المقدم محمد عويس أحد الضباط الشرفاء تم اعتقاله مساء الجمعة من قبل جهاز الأمن الوطنى بسبب ميوله الإسلامية، رغم عدم انتمائه لأى فصيل سياسى».
كان المقدم محمد عويس يخضع فى هذا الوقت للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا، التى أصدرت قرارًا بحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق، وقد قدم اعترافات كاملة ساعدت الجهات المعنية على التوصل إلى أسماء آخرين من الذين تورطوا فى ارتكاب هذه الجريمة. عندما سمعت الزوجة رشا أن المقدم محمد عويس -صديق الأسرة- هو الذى أوشى بزوجها محمد مبروك لم تصدق ذلك فى بداية الأمر، لقد كانت شاهدًا على علاقتهما، وكانت هى أيضًا صديقة لزوجته وأولادها أصدقاء لأولاده، يتبادلون الزيارات، ويسافرون سويًا لقضاء الإجازات.
وكانت الصدمة عاتية أيضًا على والدى محمد مبروك، فقد كانا يعرفان حجم العلاقة التى تربط بين نجلهما وبين المقدم محمد عويس. كانت الأحداث فى هذا الوقت تتوالى فى البلاد، وكانت جماعة الإخوان تصدر البيانات التحريضية وتسعى إلى تفعيل التظاهرات بهدف إسقاط نظام ثورة 30 يونية.
خيم الحزن على أسرة محمد مبروك وهى تستمع إلى هذه الأنباء، لقد ترك مبروك فراغًا كبيرًا، لا يمكن أحد أن يملأه فى الدنيا، كان الأبناء يشعرون بالألم، ولكنهم كانوا أيضًا يشعرون بالفخار.. كان زياد يتحدث عن والده بفخر كبير، كان يحكى لزملائه بطولات والده، وإيمانه بدوره، وكان يقول دومًا أنه سيلتحق بكلية الشرطة ليخلد ذكرى والده وليثأر له وللوطن كله من الإرهابيين.. كانت والدة محمد مبروك تتألم كثيرًا، لقد ازداد عليها المرض واشتد، لقد بعثت برسالة إلى الرئيس عدلى منصور تسأله فيها متى سيتم الثأر لابنها، حتى يهدأ بالها وتعرف الطريق إلى النوم. تكررت الأحداث فى مصر، وقد جاء حادث تفجير مديرية أمن القاهرة بسيارة ملغومة فى 24 يناير 2014، ليساعد فى الوصول إلى محمد السيد منصور (أبو عبيدة) وهو عضو مجلس شورى تنظيم أنصار بيت المقدس -خارج سيناء- والمسئول الأول عن تأسيس خلية المطرية، والتى كان لها دورها الرئيس فى تفجير مديرية أمن القاهرة واغتيال المقدم محمد مبروك.
توصلت جهات الأمن فى هذا الوقت إلى معلومات دامغة حول الشقة التى يسكنها (أبو عبيدة) فى منطقة عين شمس وهى الشقة التى سبق وأن استقبل فيها محمد عفيفى فى عام 2011، عندما سلمه سلاح كلاشينكوف فى هذا الوقت. تم إعداد مأمورية أمنية للقبض على (أبو عبيدة) رجال أمنيون تخفوا فى ملابس مدنية، انتظروه بالقرب من شقته، كانت لديهم معلومات بأنه سيلتقى بعض أعضاء التنظيم فى إحدى الحدائق المجاورة. نزل أبو عبيدة من منزله اتجه نحو شارع جانبى، ثم توجه إلى إحدى الحدائق المجاورة، اقترب عدد من رجال الأمن منه للقبض عليه، أسرع للهروب منهم، ثم بادرهم على الفور بإطلاق الرصاص عليهم، لكن رجال الأمن أسرعوا بإطلاق الرصاص عليه، فسقط صريعًا فى الحادى عشر من شهر مارس 2014. أحدث موت (أبو عبيدة) ردود فعل قوية داخل التنظيم، صدرت التكليفات من (أبو عبد الله) بضرورة الإعداد لما أسماه بغزوة (أبو عبيدة) انتقامًا لمصرعه.
تحركت مجموعة إرهابية مكونة من أربعة أفراد، أطلق أحدهم قنبلة صوت أمام كمين الشرطة العسكرية بمسطرد فى الخامسة من صباح السبت 15 مارس 2014، خرج أفراد الكمين لاستطلاع الأمر، فكانت رصاصات الغدر والخيانة فى انتظارهم، حيث قام ملثمون يحملون الأسلحة الآلية بإمطارهم بوابل من الرصاص، فسقط ستة شهداء فى الحال من الجنود، بينما كان أحدهم يقوم بتصوير الحادث الإرهابى لقد تمكن القتلة من الهروب، بينما أصيب الرأي العام بصدمة كبرى، تحركت قوات الشرطة العسكرية جنبًا إلى جنب مع قوات الأمن، التحريات دللت أن المسئولين عن العمل الإرهابى هم أنفسهم قتلة المقدم محمد مبروك.. وخلال أربعة أيام فقط، وتحديدًا فى التاسع عشر من مارس 2014، كانت التفاصيل الكاملة عن الإرهابيين وأماكن هروبهم أمام الجهات الأمنية والعسكرية، وبعد تحديد هويتهم، تم مداهمة قرية عرب شركس الواقعة بالقناطر الخيرية بمحافظة القليوبية، وعلى الفور بادرت القوات باقتحام مقر الإرهابيين الذين كانوا يختبئون فى إحدى ورش الأخشاب، أطلق الإرهابيون الرصاص فبادلتهم القوات، وتم قتل ستة من أعضاء التنظيم وضبط ثمانية آخرين بعد ست ساعات متواصلة من إطلاق الرصاص بين القوات وأعضاء التنظيم.
كان الإرهابيون يمتلكون أسلحة متقدمة وقنابل حارقة وقد تمكنوا خلال العملية من قتل العميد ماجد أحمد إبراهيم الذى سقط شهيدًا على الفور، وفى الثانية عشرة من ظهر نفس اليوم استشهد ضابط الجيش المتخصص فى تفكيك العبوات الناسفة العقيد ماجد أحمد كامل، بينما تم إصابة آخرين من أفراد الحملة الأمنية والمواطنين.. تم نقل المتهمين إلى الجهات المسئولة للتحقيق، اعترفوا بالتفصيل عن الحوادث والجرائم التى ارتكبوها فى الفترة السابقة، وكان من بين المتهمين محمد عفيفى ومحمد بكرى.. وعلى مدار ست جلسات عقدت بالمحكمة العسكرية بالهايكستب، استمعت المحكمة ابتداء من مايو حتى أغسطس 2014 إلى الشهود والدفاع والأقوال، ثم أصدرت حكمها فى 10 أكتوبر 2014 بإحالة أوراق ستة متهمين إلى المفتى والسجن المؤبد لاثنين آخرين. أبدى المفتى الموافقة على إعدام القتلة فى 21 أكتوبر 2014 وجرى تنفيذ الحكم فى 17 مايو 2015 فى ستة من القتلة كان من بينهم محمد عفيفى ومحمد بكرى الذين انهارا أثناء تنفيذ الحكم ولم يقويا على الوقوف على أقدامهما.
عندما انتشر الخبر، سادت حالة من الارتياح فى الشارع المصرى، توجهت والدة محمد مبروك إلى البلكونة ترفع علم مصر مهللة، وقامت بأداء صلاة شكر، جنبًا إلى جنب مع زوجها، الذى راحت الدموع تنهمر من عينيه.. وفى اليوم التالى كانت رشا زوجة محمد مبروك تحتضن أبنائها وهى تقول لهم: الحمد لله ربنا انتقم، وعلى الفور مضت معهم لزيارة قبر والدهم وقراءة الفاتحة هناك. كان زياد الطفل الصغير، قد صمم على أن يرتدى البدلة العسكرية، وبمجرد وصوله إلى المقبرة مع أسرته أدى التحية لوالده، ووقف أمام والدته وشقيقتيه ليقول: «أنا هعمل بوصيتك يا بابا وأطلع ضابط عشان أخد بتار مصر كلها». نظرت الأم إلى أبنائها الثلاثة بحنان، أخذتهم فى حضنها، انهمرت من عينيها الدموع، جاءها صوت محمد مبروك يدوى فى أذنيها.. «بلاش تحزنوا يا رشا، بلاش يا ولاد.. أرواحنا كلها فداء لمصر.. يتراجع الصوت تدريجيًا.. فداء لمصر.. فداء لمصر!!