قد يكون جيلنا هو الجيل الذي تحمل صدمات لا قبل لأجيال غيره بتحملها، إن من سوء حظ الأجيال التي تولد وتعيش في الفترات الانتقالية بين القرون هم الذين يتعرضون أكثر من غيرهم لصدمات بسبب تغيير المفاهيم والأفكار التي غالبا ما تحدث مع بداية ونهاية كل قرن، إن جيلنا قد تعرض لصدمة التوحش الذي تحولت له جماعات دينية كنا نظنها معتدلة، وعندما ظهر لبعض هذه الجماعات بوادر تمكين في بعض مناطق من الدولة التي تعرضت للتفكيك، وكانت مشاهد سبى النساء وقطع رؤوس الرجال مؤلمة ومخزية وحزينة تحت شعار أن هذه الجرائم الوحشية هى حكم الله الذي تزعم هذه الجماعات الدينية أنها مكلفة بإنفاذه على من يقع تحت حكمها.
أما ما دفعني دفعا لأن ابحث عن الحقيقة فهو كتاب وقع بين يدي حول تاريخ الحركة العمالية في مصر، وهو كتاب تناول تاريخ الحركة العمالية في مصر، وصدمني أن أجد بين دفتي الكتاب ملاحق تظهر أن سيد قطب الشخص الذي عرفناه بمظلوميته الشديدة واستلهمنا أفكارنا حول الحاكمية وحول تطبيق شرع الله في الأرض هو نفسه الذي يكتب في الصحف وقت أزمة عمال كفر الدوار يكتب بكل ما أوتى به من مهارة لغوية مطالبا ليس فقط بإعدام عمال كفر الدوار بل و بالإجهاز على كل من يصدع برأى مخالف، كتب سيد قطب في جريدة الأخبار (حركات لا تخيفنا ) فى عدد 15 أغسطس 1952 ما يلى عن إضرابات 12 و 13 أغسطس 1952 لعمّال كفر الدوّار :
' إن عهدا عفناً بأكمله يلفظ أنفاسه الأخيرة فى قبضة طاهرة ولكنّها قويّة مكينة فلا بأس أن يرفس برجليه ,ولكنه عهد إنتهى , عهد قد مات , ولكن المهم هو أن نشرع فى الإجهاز عليه , وأن تكون المدية حامية فلا يطول الصراع , ولا تطول السكرات , لقد أطلع الشيطان قرنيه فى كفر الدوّار , فلنضرب بقوّة , ولنضرب بسرعة , وليس على الشعب سوى أن يرقبنا ونحن نحفر القبر ونهيل التراب على الرجعيّة و الغوغائيّة بعد أن نجعلها تشهد مصرعها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة'
إن هذا المقال الصادم الذي كان من بين مقدمات لأحكام بالإعدام على أبرياء لم يسفكوا دما كانت بمثابة الصدمة التي جعلتني افكر في أن اعيد تقييم كتابات الرجل في ضوء هذا المقال وغيره من مقالات لا يستقيم أن يكون كاتبها هو من يدعو لتحكيم شرع الله باسم الحاكمية، وكان أن بحثت عن الرجل قليلا لأصدم باستمرار بأنه كان من أنصار الديكتاتورية والقمع ولم يكن أبدا من أنصار الحرية ولا العدل.
كتب سيّد قطب مقالاّ قال فيه بالحرف الواحد :
'لا بد من إستبعاد الجماهير من معادلة العمل السياسى , فمن مصلحة الجميع أن يظل الزمام فى أيدى قوّة نظاميّة طاهرة نظيفة كأبطال ثورتنا المجيدة , و من مصلحة الحمقى ألاّ يقفوا فى طرق هذه القوة النظاميّة فهى أقوى ممّا يظنون , وهى ستسحقهم سحقا
إن طريقة القوة المنظمة أسلم من طريقة الجماهير'
ثم يحسب سيد قطب نفسه ضمن أصحاب ثورة 23 يوليو بعد أن انضم لهيئة التحرير أول تنظيم سياسي لثورة 23 يوليو، فكتب فى جريدة الأخبار فى عدد 22 أغسطس 1952 قائلا بالحرف الواحد :
'لا وألف لا لدستور 1923 , فهو ليس سوى الخدعة التى يطنطن بها رجال السياسة ليفرقوا بها وثبة ثورتنا
لا و ألف لا لدستور 1923 الذى تتستر الرجعية وراء صفحاته و تتشبث بخدعته لتعيش
لا وألف لا لدستور 1923 , فلا دستور لنا سوى دستور ثورة 1952
نعم....
إننى اطالب بدكتاتورية نظيفة و عادلة حتى يتم التطهير
إن الصدمة التي هالتني هو أن مثل هذا الشخص الذي يكتب هذا الكلام لا يعقل بعد شهور أن يتحول من النقيض للنقيض ويكتب عن الحاكمية وعن تحكيم شرع الله بين الناس، بل إن الذي يكتب بمثل هذا المنطق لا يمكن أبدا أن يكون قرآنيا يبشر بجيل قرآني فريد له جيل رسالي يهدف لتحكيم شرع الله بين الناس وأن يعلو القرآن فوق رؤوس الجميع ليكون الدستور الإلهي الحياة بعيدا عن القوانين الوضعية والدساتير البشرية ، بعد أن قال بنفسه أنه أنه لا دستور سوى دستور ثورة 1952م
بل أن سيد حتي في المرحلة التي وصف فيها نفسه بأنه تحول ليكون إسلاميا لم يكتفي فقط بالتحريض على قتل أشخاص لم يسفكوا الدماء وهو ما يخالف مزاعم الحاكمية التي روج لها وابتدع مصطلحها الزائف، بل أن مروج هذا المصطلح الزائف لم يجد في نفسه أى غضاضة في أن يسب الصحابة ومن بينهم صحابة مبشرون بالجنة بأقسي الشتائم التي لا يقبل أى مسلم أن يوصف بها أسماء من اكابر الصحابة مثل معاوية بن ابي سفيان أو عمرو بن العاص، ولو حاول أشياع دين الحاكمية أن يبرروا تطاول سيد قطب على معاوية ابن ابي سفيان أو عمرو بن العاص، فكيف سيبررون تطاوله على صحابي مات شهيدا ومظلوما مثل عثمان بن عفان ذو النورين ووصفه له بالعجز والضعف والتمكين للظالمين، بل كيف يمكن أن يبرر أشياع دين الحاكمية عن صاحب هذا المصطلح الكاذب وهو يتطاول على نبي الله وكليم الله موسي عليه السلام وهو من ذوي العزم من الرسل، يقول سيد قطب عن نبى الله موسي:
قال مؤسس عقيدة الحاكمية في كتابه ' التصوير الفني في القرآن '
' لقد عرضنا من قبل قصة صاحب الجنتين وصاحبه، وقصة موسى وأستاذه، وفي كل منهما نموذجان بارزان، والأمثلة على هذا اللون من التصوير هي القصص القرآني كله؛ فتلك سمة بارزة في هذا القصص، وهي سمة فنية محضة، وهي بذاتها غرض للقصص الفني الطليق، وهاهو ذا القصص القرآن، ووجهته الأولى هي الدعوة الدينية، يلم في الطريق بهذه السمة أيضاً، فتبرز في قصصه جميعاً، ويرسم بضع نماذج إنسانية من هذه الشخصيات، تتجاوز حدود الشخصية المعنية إلى الشخصية النموذجية؛ فلنستعرض بعض القصص على وجه الإجمال، ولنعرض بعضها على وجه التفصيل.
1 – لنأخذ موسى؛ إنه نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج.
فها هو ذا قد رُبي في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره، وأصبح فتىً قوياً.
]وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ[([1]).
2 - وهنا يبدو التعصب القومي، كما يبدو الانفعال العصبي.
3 - وسرعان ما تذهب هذه الدفعة العصبية، فيثوب إلى نفسه؛ شأن العصبيين:
]قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[([2]).
]فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ[([3]).
4 - وهو تعبير مصور لهيئة معروفة: هيئة المتفزغ المتلفت المتوقع للشر في كل حركة، وتلك سمة العصبيين أيضاً.
ومع هذا، ومع أنه قد وعد بأنه لن يكون ظهيراً للمجرمين؛ فلننظر ما يصنع... إنه ينظر:
]فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ[([4]) مرة أخرى على رجل آخر! 'قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ'([5]).
5 - ولكنه يهم بالرجل الآخر كما هم بالأمس، وينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه وخوفه وترقُّبه، لولا أن يذكره من يهم به بفعلته، فيتذكر ويخشى:
]فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ[([6]).
وحينئذ ينصح له بالرحيل رجل جاء من أقصى المدينة يسعى، فيرحل عنها كما علمنا.
6 - فلندعه هنا لنلتقي به في فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات؛ فلعله قد هدأ وصار رجلاً هادئ الطبع حليم النفس.
7 - كلا! فها هو ذا يُنادي من جانب الطور الأيمن: أن ألق عصاك. فألقاها؛ فإذا هي حيةٌ تسعى، وما يكاد يراها حتى يثب جرياً لا يعقبُ ولا يلوى... إنه الفتى العصبي نفسه، ولو أنه قد صار رجلاً؛ فغيره كان يخاف نعم، ولكن لعله كان يبتعد منها، ويقف ليتأمل هذه العجيبة الكبرى.
8- ثم لندعه فترة أخرى لنرى ماذا يصنع الزمن في أعصابه.
لقد انتصر على السحرة، وقد استخلص بني إسرائيل، وعَبَرَ بهم البحر، ثم ذهب إلى ميعاد ربه على الطور، وإنه لنبي، ولكن ها هو ذا يسأل ربه سؤالاً عجيباً: ]قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي[([7]).
9 - ثم حدث مالا تحتمله أية أعصاب إنسانية، بله أعصاب موسى: ]فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ[([8]).
10 - عودة العصبي في سرعة واندفاع!
11 - ثم ها هو ذا يعود، فيجد قومه قد اتخذوا لهم عجلاً إلهاً، وفي يديه الألواح التي أوحاها الله إليه، فما يتريَّث وما يني، ]وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ[([9]).
وإنه ليمضي منفعلاً يشدُّ رأس أخيه ولحيته ولا يسمع له قولاً: ]قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[([10]).
12 - وحين يعلم أن السامري هو الذي فعل الفعلة؛ يلتفت إليه مغضباً، ويسأله مستنكراً، حتى إذا علم سر العجل:
]قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا[([11]).
13 - هكذا في حنق ظاهر وحركة متوترة.الخ
14 - فلندعه سنوات أخرى.
لقد ذهب قومه في التيه، ونحسبه قد صار كهلاً حينما افترق عنهم، ولقي الرجل الذي طلب إليه أن يصحبه ليعلمه مما آتاه الله علماً، ونحن نعلم أنه لم يستطع أن يصبر حتى ينبئه بسرِّ ما يصنع مرة ومرة ومرة، فافترقا...
15 - تلك شخصية موحدة بارزة، ونموذج إنساني واضح في كل مرحلة من مراحل القصة جميعاً.
هذا هو رأي صاحب مصطلح الحاكمية الزائف ومؤسس دينها في نبي الله موسى، لكن ماذا قال الله سبحانه وتعالى عن نبى الله موسي الذي تطاول عليه سيد قطب واعتبره شخص عصبي المزاج مندفع ومتهور في كل مراحل حياته :
قال الله في شأنه: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[([12]).
وقال تعالى: ]وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى[([13]).
وقوله تعالى : ]واصطنعتك لنفسي [([14]).
وقال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا[([15])