اعلان

"سقط متاع" للدكتورة إنجي البسيوني.. الكتابة للتاريخ .. والذهب الذي لا يحتاج إلى تذهيب

د. محمد أبو الفتوح غنيم
د. محمد أبو الفتوح غنيم

قد يرى البعض أن الكتابة الأدبية عن أحداث تاريخية، أمر سهل وميسور، وقد تكون، إلّا أن الإشكالية تكمن فيما سيكتب الكاتب؟ وعمَّن سيكتب؟ وكيف سيكتب؟.

إن اختيار الحدث التاريخي، أو الشخصية التاريخية، ومن ثمَّ كيفية الكتابة، وأدوات الكاتب وآلياته، وامكاناته، ورؤاه، هي التي تميّز بين عملٍ أدبي تاريخي وعمل أدبي تاريخي آخر. ناهيك عن التمييز بين التناول التاريخي والتناول الأدبي.

تبحر بنا الكاتبة والروائية د.إنجي البسيوني في رحلة تاريخية، عبر روايتها "سقط متاع"، إلى فترة تاريخية فارقة في التاريخ الإسلامي، فترة كانت نارها مشتعلة، فترة احتدم الجدل فيها بين أنصار الخلافة ودعاة الملك، بين من يؤيدون الدولة الدينية، ومن يهللون للملك العضود، فترة اختلطت فيها المشاعر بالسيوف، والتعاطف والولاء بالطاعة العمياء.

واختارت بطلها شخصية كانت مثار جدل بين المؤرخين والعلماء، بل والعامة، حول حقيقة فساده وجهره بالمعاصي والخروقات، وحول شربه للخمر أو براءته من معاقرتها، وحول ما اذا كان قد نصب العداء لآل بيت النبي أم هو بريء من ذلك، وحول جواز لعنه أو حرمة لعنه، إنه "يزيد ابن معاوية" الخليفة الأموي الثاني.

وقاسمته البطولة"سليمى"، الفتاة، الأنثى، الوحيدة، التي ورثت عن أمها البيزنطية الجمال الفاتن، وعن أبيها النقاء العربي والإسلام الخالص، والتي أوقعها القدر، وجمالها الأخاذ، في طريق يزيد بن معاوية، خليفة المسلمين، في فترة تاريخية شاء القدر أن تكون هي شاهدة عليها، ومعاصرة لأحداثها، أو رامزة لها؛ لتأخذنا الرواية في خطين متوازيين ومشتبكين بين الهمّ العام للأمة، والهمّ الخاص لتلك الفتاة البائسة، بين ما تمر به مأسٍ وما تمر به الأمة من مآس متوازية، فما تكاد تخرج من عثرة، وتهنأ بالنجاة منها، حتىتقع في عثرة أخرى، ومن أن تبرأ من ألمٍ حتى يصيبهاألمٌ جديد وهكذا في ارتحالٍ دائم في الأسى.

وتعزف الرواية على عدة أوتار وتتطرق إلى مجموعة من القضايا، تزداد تشابكاً ودرامية، في سرد بالغَ الحبكة، حيث تشتبك السياسة مع الدين، والمشاعر مع العقل والمنطق، والرومانسية البريئة مع رغبة التملك، والبراءة وسلامة الطويّة مع الدسائس والمكر والدهاء، والصراعات العامة والخاصة، الصراع بين آل هاشم بيت النبوة وبني أمية،ذلك الصراع الممتد حتى من قبل زمن الرواية ومن قبل بعثة النبي، صراع الخلافة والملكوكان مجالها ساحات القتال، والصراع للظفر بقلب الخليفة "الملك" بين نساء القصر، وقضايا المرأة منذ ذلك التاريخ، المرأة الجارية سقط المتاع، والمرأة الزوجة المستسلمة لأمرها، والمرأة المنكسرة، والفتاة التي يعبث الحب بقلبها.

وفي خطٍ مواز بين حالة الحسين، سبط النبي، وتخلي أهل العراق عنه، أو كمال قال الفرزدق فيهم "قلوبهم معكوسيوفهم مع بني أمية"، ليواجه بأهل بيته وأنصاره الأقلاء الضعفاء جيش بني أمية الذي لم تأخذه رحمة بهم، وحالة "سليمى" المسكينة التي مات والداها في الطاعون، وانتزعت من بيئتها حيث البراءة والحب إلى قصر الملك،حيث التملك والشهوة والدسيسة والدهاء،فعاشت فيه سجينة الجدران والنفس، ثم إبعاد حبيبها، وموت والدها، الذي كفلها ورباها لتواجه الحياة القاسية دون سند ودون حبيب، حتى إذا ما ساقتها الأقدار إلى جدها البعيد في المدينة وظنَّت أن الحياة قد ابتسمت لها عادت الحياة لتعبث في وجهها وربما للأبد.

كما تقول الكاتبة عن حالة سليمى في النهاية:

"يالها من أقدار موغلة في الضيم، وعواقف لا تليق بها! الركام "يزيد" والحزن "يزيد" والقهر "يزيد" واليأس "يزيد" ولا ينقص سوى الأمل. وكأن مشكلة سليمى اتحدت مع مشكلة الأمة الاسلامية في شخصية واحدة وهي "يزيد" الذي ذكرت اسمه على سبيل التورية في هذا السياق.

هكذا تسير بنا الرواية التي تأخذ بأيدينا، وننساق وراءَها لتمخر بنا عباب الأحداث وذروتها عند اقتحام جنود الخليفة عليها منزل جدها، ومحاولة الجندي "زهير" الإعتداء عليها، وحالة المدينة المنورة وانتهاك جنود يزيد ابن معاوية لحرمتها وبحرفية بالغة، بل إننا لا ندري أهذه الحياة المأساة، أم المأساة الحياة التي تعيشها سليمي، أم هي الحياة التي تعيشها الأمة بعد أن قتل بعض منها سبط نبيهم.

فكأن الكاتبة عندما تتحدث عن سليمي وتقول:

"استنكفت وصل الملوك، فابتليت بالسوقة والدهماء في عقر دارها، لماذا لا تتوقف إغارات الوجع على قصف قلبها المفطور ألماً وقهراً؟ ألم يئن لولائم الحزن أن تنتهي من سرادقات أيامها؟

ولا زالت الكاتبة كما عودتنا في عمليها السابقين ("متاهة تسكن جسداً"، و"عيون المرايا") تراعي الفضيلة، واللغة النظيفة في أدبها وكتابتها، فلا تفصح عما لا يجدي الافصاح عنه، ولا تميل إلى الإثارة والتشويق اللا أخلاقي، وهو أسلوب يحسب لها ليس فقط التزاماً منها، ومراعاة لقيم المجتمع، بل أيضًا احتراماً لقارئها ولحرصها عل ألا تميل إلى خداع القارىء وتذهيب الردىء من الأدب بذهب التشويق والإثارة، الذهب ليس في حاجة على تذهيب، فنجدها في لغة راقية مهذبة تصف مشهداً من هذه المشاهد مكتفية بقولها: "ثم وضع يده على غرة شعرها الأسود، وأزال خصلة كانت نائمة على شاطئ جبينها الأغر"، مستخدمة الغزل العفيف فى صناعة المشهد.

ومشهد آخر تصف ما حدث لسليمي عندما تهجّم عليها "زهير" مكتفية فقط بأن تقول: "وودّعت هي حياة الروح"، دون أن تفصح عن ما حدث إلا بعبارات موارية وإن كانت كاشفة.

والرواية متخمة بمشاهد وأحداث تاريخية، نسجتها الكاتبة نسجاً محكماً، وصبغتها بلغتها الراقية، ولونتها بألوان التشويق والإثارة التصويرية والبلاغية، كأنك أمام مشاهد سينمائية، متضمنة: الحركة، والصوت والايقاع، واللون، وتعبيراً عن الحالة النفسية، فما يملك القارىء إلا أن يقع أسيرها، ولا يرفع رأسه منها إلا وقلبه معلق بها، وخاطره مشدود إليها، وهو ما يميز هذا العمل الأدبي التاريخي المميز.

انظر إلى تصوير مشهد وحالة "سليمي" عند عودتها إلى القصر بعد عزاء والدها الذي كفلها ورعاها: "تسير بخطىً متثاقلة، تنتعل الوجع، وترتدي وشاح الصبر والاستسلام، بعد ان شيعت أمانها إلى مثواه الأخير".

وكذلك وصف حالتها الشعورية المؤثرة بكلمات دالة معبرة في رحلة الهروب من القصر و البحث عن جدها

ولكن هذا التصوير يصل ذروته في حادثة "كربلاء" وقتل الحسين، وحادثة "الحرّة" وقتل أهل المدنية المعارضين لبيعة "يزيد بن معاوية" وانتهاك حرمات بيوت المدينة، وهما يمثلان ذروة مأساة هذه الفترة التاريخية، وذروة الانسلاخ من عصر النبوة والخلافة الراشدة إلى عصر الملك والسياسة، والحد الفاصل بين سيادة الدين وإطلالة الدنيا برأسها، وأخطر الأحداث والحوادث التي مرَّ بها العالم الإسلامي في تلك الفترة التاريخية. وقد برعت الكاتبة،بموضوعية الباحث والمؤرخ، في عرض وجه النظر، ووجة النظر الأخرى، كما برعت براعة الروائي القدير في رسم شخصياتها براعة جمعت فيها بين الدواخل والخوارج، والظاهر منها والباطن، وكذلك في الحوار المحكم الخالي من الحشو والتكلف.

بهذه الرواية تستمر الكاتبة والروائية القديرة، د. انجي البسيوني، بلغتها المميزة النظيفة، وسردها المحكم، وأسلوبها الأخَّاذ، وتصويرها الأنيق، وبلاغتها المعهودة، وحرصها على احترام عقل قارئها ومشاعره، وما يؤمن به من قيم؛ لتضع لبنة جديدة في مشروعها الروائي الجدير بالمتابعة والقراءة لما فيه من متعة للعقل والقلب والوجدان.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً