وسط مشاعر متضاربة تطالعني الأخبار عن الجرائم الوحشية وجرائم الاغتصاب المروعة التي تتعرض لها السودانيات الحرائر على يد مرتزقة ميلشيات الدعم السريع، وهى ميلشيات تضم مكونات من مرتزقة من تشاد وبلدان إفريقيا الوسطى أكثر مما تضمه من السودانيين، ومع الأسف نجحت هذه الميلشيات في أن تعصف بكيان السودان بشكل لم يسبق له مثيل.
لقد عرف السودان الحروب الأهلية منذ عام 1955، وحتى عام 1972، وتجددت الحرب الأهلية في السودان مرة أخرى منذ عام 1983، ولكن هذه المرة كان طعم الحرب مختلفًا ومر على الجميع على المصريين قبل أهل السودان، هذه المرة الحرب أكثر دموية وتعصف بالخرطوم نفسها، المدينة الآمنة التي لم تكن تعرف إلا السلام والابتسامة على كل من يعيش فيها سودانيا أو وافدا على السودان، الخرطوم الهادئة تحولت لمدينة حرب تعصف دانات المدافع بمنازلها ويقتل القناصة من يطالها رصاصها الغادر فيها .
اهل مصر الورقي
لمن لا يعرف من الشباب فإن للسودان جميلا بل أكثر من جميل قدمه لمصر، وإن كنت كمصري اتحرج من أن أعدد ما قدمته مصر، فقد كانت سنة 1967 هى أصعب السنوات التي مرت على مصر في تاريخها الحديث، ولعل هذا العام كان الأصعب على العرب وليس على مصر فقط في العصر الحديث، في هذا العام شرب العرب من كأس الهزيمة العسكرية المريرة ما يدفعون فاتورتها حتي هذا اليوم، ولم تكن الهزيمة فقط عسكرية بل هزيمة سياسية وسقوط للمشروع القومي الناصري الذي كان مشروعا مصريا بامتياز، ويومها لم يترك السودان مصر وحيدة في هذه الازمة التي لم يمر على مصر مثلها منذ انكسار جيش عرابي وسقوطها تحت الاحتلال البريطاني، في هذه الظروف تم عقد قمة اللاءات الثلاثة أو قمة الخرطوم هي مؤتمر القمة الرابع الخاص بجامعة الدولة العربية، عقدت القمة في العاصمة السودانية الخرطوم في 29 أغسطس 1967 على خلفية هزيمة عام 1967 أو ما عرف بالنكسة. وقد عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاثة حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه.
ففي هذه الظروف القاسية ووسط هذا الظرف التاريخي القاسي على مصر وقيادتها، استقبلت القيادة السياسية السودانية الزعماء العرب المشاركين في قمة الخرطوم استقبالا رسميا وفق البروتوكولات، أبي الشعب السوداني إلا أن يكون استقبال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مختلفا عن استقبال كل الزعماء والملوك العرب، وخرج مئات الآلاف من أهل السكان الحبيب في استقبال أسطورى من الشعب السودانى لـ'عبدالناصر'، وكان هذا الاستقبال هو أهم أحداث المؤتمر، وفي مذكراته يصف 'محمود رياض' وزير الخارجية المصرى، وقتئذ هذا الاستقبال: 'بمجرد أن هبطت طائرة عبد الناصر على أرض المطار، اقتحمت الجماهير السودانية كل الحواجز، وتخطوا رجال الأمن وهو يهتفون بحياة عبد الناصر، مطالبين بالثأر من إسرائيل وتحرير الأرض'، ويتذكر 'رياض': 'كنت استقل سيارة خلف عبد الناصر، وخيل لى أن سكان الخرطوم قد خرجوا جميعا لاستقباله، وسمعت من أحد الوزراء السودانيين أن الخرطوم لم تشهد فى تاريخها من قبل مثل هذا الطوفان البشرى الضخم الملتف حول زعيم لم ينحن للهزيمة'.
بل فعل أهل السودان الحبيب ما لم يخطر ببال أى إنسان، فقد لم يكتفوا بالالتفاف حول سيارة الرئيس جمال عبدالناصر محتضنين لها في ترحيب فوق العادة، بل حمل السودانينون سيارة جمال عبدالناصر على الأكتاف، أكرر المشهد لمن قد لا يصدقه من الجيل الجيل (لقد حمل السودانيون سيارة الرئيس عبد الناصر فوق الأعناق)، لقد حمل أهل السودان الحبيب مصر المهزومة والمأزومة وقتها على الأعناق ! لدرجة أن مجلة نيوزيوك الأمريكية، وكانت في هذه الفترة معادية لمصر ولقيادتها، وضعت صورة جمال عبدالناصر على غلاف عددها الصادر في نفس الأسبوع الذي شهدت فيه الخرطوم هذا المؤتمر، وكانت هذه هى أول وآخر مرة في التاريخ يستقبل شعبا أبيا عريقا كشعب السودان قائد في ظروف هزيمة عسكرية وسياسية استقبال المنتصرين .
وأغلى من سلفة ماء النيل كانت مشاركة الجيش السوداني حماية طريق السويس المؤدي للقاهرة بعد نكسة حرب 1967، فبعد أن خرجت أنباء الهزيمة من السر للعلن بعد تكتم قصير، أجتمع مجلس وزراء الدفاع لمساندة القوات المسلحة المصرية وعلى ضوء ذلك تم تكوين كتيبة مشاة بقيادة العقيد أ.ج (آنذاك) محمد عبد القادر، تحركت هذه القوة بالقطار في 7/6/1967. وكان لهذه القوة أهمية خاصة ترجع إلى أنه تم إعداد وتكوين القوة في زمن وجيز واستطاعت الوصول في زمن قياسي فكانت أول القوات العربية التي وصلت لتدافع غن القاهرة وكان طريق السويس القاهرة مفتوحا أمام أى تقدم أو تطوير للهجوم الاسرائيلي على سيناء . في هذا الوقت العصيب على مصر وبينما كان الجيش المصري مشتتا بسبب الهزيمة المفاجئة كانت القوات السودانية الوحيدة الموجودة شرق السويس في مواجهة القوات الإسرائيلية ففي ذلك الوقت تم سحب كل القوات العربية لغرب القناة. كلفت القوة بالدفاع عن منطقة فؤاد وهي المنطقة الوحيدة التي لم تحتلها القوات الإسرائيلية. بعد وصولها لموقعها تم دعم الكتيبة السودانية بوحدات دعم مصرية تمثلت في وحدات مهندسين، بعض المدافع المضادة للطائرات عيار 37مل و12 ملم مدفعية عيار 105 ملم، دبابات أم 34 ( خفيفة) وحدات طبية وسرية من القوات الخاصة.
الآن وفي ظل الظرف التاريخ الدقيق الذي يمر به السودان الحبيب الذي يمر الان بأزمة قد تنهي وجوده كدولة مستقرة، فإن الأوان قد آن لرد الجميل للسودان الحبيب .