السجن تجربة مريرة، وهي أيضًا تجربة مفيدة بشرط أن تكون قصيرة ولا تطول أكثر من اللازم. والحقيقة أن السجن، شأنه شأن المرض أو الموت، يقع قسراً وتسيره الأقدار، وليس لأحد يد في أن يتعرض لهذه التجربة أو يتجنبها. بالتأكيد، من يقدم على ارتكاب جريمة أو مخالفة للقانون يكون في ذهنه أنه يخاطر بتعريض نفسه للسجن، ولكن في الوقت نفسه، فإن المثل المصري يقول: 'ياما في الحبس مظاليم'، وأيضًا في القرآن الكريم يضرب مثلًا أكيدًا على أن السجن يكون أحيانًا مثوى للأبرياء، بل للأنبياء، وقد يكون السجن في بعض الحالات بداية للتمكين في الأرض. وهذا ما حدث في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، الذي انتقل إلى مصر عبدًا مملوكًا رقيقًا، ثم دخل السجن ليخرج منه وزيراً على خزائن الأرض. وتقول الروايات إن نبي الله يوسف تزوج من ابنة ملك مصر، وفي روايات أخرى تزوج من نفس المرأة التي كانت سببًا في أن يدخل السجن.
قضية الراحل الكبير الدكتور سعد الدين إبراهيم
وفي ليلة، تلقيت مكالمة هاتفية تفيد بأن نيابة أمن الدولة تطلبني للتحقيق. كان ذلك في صيف عام 2000. كنت وقتها شابًا في بداية تجربة جديدة بعد انتهاء فترة طويلة قضيتها في الخدمة العسكرية. وكنت قد سافرت خارج مصر بعد انتهاء خدمتي العسكرية وعدت إلى مصر لاستكشف عالمًا جديدًا ظننت أنني لم أكن على قدر كافٍ من الخبرة لأعلم بأني لا أمتلك من أدوات الخبرة ما أتعامل به بحكمة مع معطيات هذا العالم الجديد الذي كان يتشكل في مصر خلال هذه الفترة. وهذا النقص في الخبرة هو ما قادني إلى أن أضع نفسي في مرمى الرصد بعد أن تعاملت بقلب وذهن منفتحين مع الراحل الكبير الدكتور سعد الدين إبراهيم، وكنت أقوم بدور في عملية نشر كتبه ومقالاته. كنت في هذا الوقت أعمل محررًا للشؤون العالمية في موقع شهير تم حجبُه بعد ذلك، ولم أكن أعرف يومها بحكم حداثة خبرتي أن هذه العلاقة سوف تجعلني في مرمى الخطر، خاصة وأنا كنت خلال هذه الفترة أقوم بدور كبير في إنتاج ما يقدمه هذا الراحل الكبير من فكر سياسي واجتماعي، وأحيانًا صانعًا للكتب التي يؤلفها الراحل الكبير، وهو علامة من علامات علم الاجتماع في العالم. وبعد المكالمة، شعرت بمشاعر مختلطة بين الخوف وإحساس دفين ساورني بأنني مقدم على تجربة مثيرة في حياتي قد تؤسس لسنوات قادمة من الخبرة أو حتى من المعاناة.
محقق حاول أن يصبح روائي وظلمني ولم يكن محايدًا
في نيابة أمن الدولة، وجدت نفسي في مواجهة محقق اشتهر بعد ذلك بأنه حاول أن يكرر تجربة عدد من الروائيين المصريين الذين بدأوا حياتهم كمحققين ثم تحولوا إلى الأدب. والحقيقة أنه بدا لي أنه يريد أن يحصل على اعتراف مني ليوظفه لإدانة المتهم الأول في القضية وهو الدكتور سعد الدين إبراهيم، والحقيقة أيضًا أنه استغل عدم معرفتي بالقانون وعدم وجود محامٍ معي في التحقيق وأوهمني بأنه يسألني للشهادة وليس للتحقيق بعد أن طلب مني أن أردد القسم 'والله العظيم أقول الحق'. كان هذا الإجراء لوحده كفيلًا بإبطال التحقيق معي، وعندما لجأت إلى نصيحة قانونية تقليدية وهي أن أنفي كل الاتهامات الموجهة إلي وأجيب عن الاتهامات التي تتضمنها أسئلة المحقق بكلمة واحدة هي 'لا'، هددني بشكل لا يتفق مع مكانة النيابة كخصم شريف بالحبس إن ظلت كل إجاباتي بـ'لا'. والحقيقة وقع في نفسي أن هذا المحقق قد ظلمني ولم يكن محايدًا معي بما يليق بالحياد الذي يفترض في عضو النيابة، والمفارقة أني في هذا الموقف لم أتعرض لأي ضغط من جانب الشرطة، ولكن الضغوط كلها كانت من محقق النيابة.
مبارك الوحيد الذي جنح للسلم مع جماعة جهادية حملت السلاح
كما علمت بعد ذلك فإن قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، التي وجدت نفسي المتهم العاشر فيها، وبين فترة التحقيق وفترة صدور قرار حبسي احتياطيا وجدت الفرصة متاحة لاتحدث مع متهمين آخرين في قضايا كان معظمها متعلق بالصراع الذي كان دائرًا في ذلك الوقت بين الجماعة الإسلامية وبين نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، قبل أن يتجه الطرفان للمصالحة وتصدر الجماعة الإسلامية مراجعات تعدل فيها عن العنف، ويبدأ نظام الرئيس مبارك في الإفراج تدريجيا عن أعضاء الجماعة الإسلامية، وقد يكون نظام الرئيس مبارك هو النظام العربي الوحيد الذي جنح للسلم مع جماعة جهادية حملت ضده السلاح في هذا الوقت.
شاب في قلب العاصفة ودرس من دروس صحافة الوكالات
وفجأة، انقلبت حياتي رأسًا على عقب، وتحولت من صحفي مبتدئ في موقع إخباري هادئ إلى متهم في قلب أخطر وأهم قضية حقوقية في عهد مبارك. قضية مركز ابن خلدون، التي كانت محط أنظار العالم أجمع، لم تكن مجرد قضية محلية، بل كانت معركة من أجل الحريات والديمقراطية. لم أكن أتخيل يومًا أنني سأجد نفسي في قلب هذه العاصفة، محاطًا بأسماء كبيرة مثل الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذي كان رمزًا للنشاط الحقوقي في العالم العربي. الاتهامات التي وجهت إليّ وللدكتور كانت بلا أساس قانوني ولكن يمكن القول إن هناك حقائق خافية أزعم أني واحد من بين أشخاص معدودين أعلم بعضها، وكان الهدف منها تشويه سمعتنا وتكميم أفواهنا. ولكن، بفضل الدعم الدولي والاهتمام الإعلامي بالقضية، تمكنت من مواجهة هذه الاتهامات الزائفة. كانت المحاكمة بمثابة منصة لعرض الحقائق، وكشفت عن الوجه القبيح للنظام السابق. وقد تعلمت خلال هذه التجربة قيمة الحرية وضرورة الدفاع عنها حتى النهاية. أثناء المحاكمة، كنت ألتقي بانتظام بمراسلي الوكالات الإخبارية العالمية، الذين كانوا يتابعون القضية عن كثب. ومن خلال هذه التجربة، أدركت أن الأخبار العالمية ليست مجرد أحداث بعيدة عنا، بل هي جزء من حياتنا اليومية، وأن كل فرد منا يمكن أن يكون بطلًا في هذه الأخبار.