في يومٍ من أيام أغسطس الحار، عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثلاثةٍ وعشرين، وفي قرية سلام الهادئة بأسيوط، استيقظت الحياة بنبض جديد. في ذلك اليوم، وفي ذلك المكان المتواضع، وفي كنف أسرة مسيحية تتقن صلاة الكنيسة، ولد طفلٌ لم يكن يعلم أن القدر قد اختاره لمهمة سامية. سموه "نظير"، اسمٌ بسيطٌ كبداياته، لكنه حمل في طياته معاني عميقة. نال سر المعمودية المقدسة في دير القديس الأنبا شنوده بسوهاج، لتبدأ رحلة إيمانية ستشكل مستقبله.
لم يكن يعلم هذا الطفل، وهو يفتح عينيه على العالم، أن اسمه سيتردد على ألسنة الملايين، وأن حياته ستكون قصةً تروى عبر الأجيال. في ذلك الوقت، كان مجرد رضيعٍ يتيم في هذا العالم ، ولا يدري أن الله قد رسم له طريقاً خاصاً، وأن مستقبله سيكون مليئاً بالأحداث العظيمة، ليتربى هذا الطفل الرضيع على حب الله والكنيسة. في دير القديس الأنبا شنوده بسوهاج، نال سر المعمودية، وهو السر الذي يربط الإنسان بالله وبالكنيسة. لم يكن يعلم هذا الطفل الصغير، وهو يرتدي ثوب المعمودية الأبيض، أن هذا السر سيصبح أساس حياته، وأن الله سيختاره ليكون أحد أدواته في الأرض.
و في كنف عائلة عريقة، كان نظير جيد الأصغر سناً. كان له أخ أكبر، روفائيل، الذي اختار أن يسكن دمنهور، وأخ أوسط، شوقي جيد، الذي ارتدى فيما بعد جلباب الرهبنة باسم القمص بطرس. وقد حظي بخمس أخوات كنجوم ساطعة في سماء العائلة، تزوجن وانجبن. ولكن القدر لم يمهل والدته لتراه يكبر، فقد فارقت الحياة بعد ولادته بساعات قليلة.
كان صغيراً كطائر حزين فقد عشّه، لم يعرف حنان الأم. وفي كل يوم، كان يخطو خطوات بطيئة على طريق طويل إلى المدرسة، وحيدًا مع أفكاره التي تطير كفراشات ملونة في سماء خياله، في صمت طفولته، كان يتأمل العالم من حوله بعيون واسعة. كان يسلك طريقًا طويلًا إلى المدرسة، وحيدًا مع أفكاره العميقة، وكأنه في رحلة استكشاف إلى عالم آخر
كان طفلاً تتقاذفه أمواج الحياة، ففي كل مرحلة من مراحله التعليمية الأولى، كان ينتقل من مدينة إلى أخرى، من دمنهور إلى الإسكندرية ثم أسيوط وبنها، يرافق شقيقه الأكبر روفائيل في رحلته عبر مدن مصر. وكأن طفولته حقيبة سفر يُعبئها بمدن جديدة وذكريات متنوعة ، في كل مدينة جديدة، كان يفتح كتابًا جديدًا من كتب الحياة. في دمنهور، الإسكندرية، أسيوط، وبنها، تلقى تعليمه الأول، واكتشف عوالم جديدة، وتعلم لغات مختلفة. كان كل انتقال كرحلة استكشاف لمدينة جديدة، وثقافة جديدة، وعادات جديدة.
و في خضرة جزيرة بدران، حيث يلتقي النيل بالمدينة، وجد روحه ملاذاً في مدرسة الإيمان الثانوية. كانت جدرانها العتيقة تحكي حكايات المعرفة، وأروقتها تضجّ بأصوات الشباب الطامح. هناك، شرب من ينابيع العلم والمعرفة، وتشرب روحًا إيمانية صافية. ثم انتقل إلى مدرسة راغب مرجان، حيث ازدهرت موهبته الأدبية، وصار قلمُه سيفًا يقاتل به الجهل والظلام، ومن صبي صغير يبحث عن هويته، تحول إلى شاب مثقف يملك رؤية واضحة للمستقبل. كانت مدرسة الإيمان بمثابة الحاضنة الأولى، ثم انتقل إلى مدرسة راغب مرجان، حيث صقل موهبته ونمى عقله. كان كل انتقال كفصل جديد في رواية حياته، مليء بالأحداث والشخصيات التي شكلت من هو عليه، وقبل مرحلة ثانوي تخلف الصبي نظير عن الدراسة لمدة عامين فلم تكن معه شهادة ميلاد فقد ضمتة سواقط القيد.
يقول البابا شنودة عن هذه الفترة من حياته : (في تلك السنوات، زرعت بذور المعرفة في نفسي، فكانت القراءة بالنسبة لي كاستثمار في المستقبل. كل كتاب قرأته كان يضيف إلى رصيدي الثقافي، ويقربني من تحقيق أحلامي. تلك القراءة المبكرة هي التي مهدت الطريق أمامي، كنت أقرأ بشغف، وكأنني أسافر عبر الزمان والمكان. كانت الكتب بالنسبة لي مرشدي ومعلمي، فقد تعلمت منها الكثير عن التاريخ والحضارات، وعن العلوم والفلسفة ، وحتى الطب ) .
ويضيف البابا شنودة عن هذه الفترة من حياته : ( هذه العادة فى عادة اخرى هى انى رحت اجلس مع الاكبر منى سنا كأخى الاكبر واصحابه فكنت اعرف واجمع من المعلومات ما يتجاوز سني و لقد كنت أقرأ الصحف فى المرحلة الابتدائية و كنت احفظ خطب مكرم عبيد فى السياسة و دفاعاته في المحاكم لان مرافعاته كانت أدبا رقيقا . هذا يعنى أن فجوة أتسعت بيني وبين أقرانى . فلم اعرف في طفولتي و صباي الالعاب المعروفة فى هذا السن
في تلك السنوات الحساسة، اكتشف نظير متعة القراءة، فغاص في أعماق الكتب، واستكشف عوالم جديدة. كانت القراءة بالنسبة له كنافذة تطل على الحياة، فتعلم منها الكثير عن العالم من حوله، وعن نفسه. تلك القراءة المبكرة هي التي صقلت شخصيته، وجعلته الشاب المثقف الذي عرفناه.
و من صبي صغير يحلم بأجنحة تطير به إلى عوالم بعيدة، تحول إلى شاب مثقف يملك قلماً سحرياً. في مدرسة الإيمان، زرع بذور المعرفة، وفي مدرسة راغب مرجان، ازدهرت شجرة أدبه. كان كل انتقال كتحول ليرقة إلى فراشة، تطير حرة في سماء المعرفة، ففي مدرسة الإيمان، وضع اللبنات الأولى لمبنى شخصيته، وفي مدرسة راغب مرجان، أكمل بنائه. كانت هاتان المدرستان بمثابة الرحم الذي حمل في طياته فكرًا جديدًا، وأدباً راقياً. خرج منهما شابًا واعدًا، يحمل معه أمانة توصيل رسالة الأدب إلى العالم، و في سن المراهقة، اكتشف موهبته الشعرية، فبدأ رحلة طويلة من الصقل والتطوير. عام 1939، انغمس في دراسة أوزان الشعر وتفاعيلها، وكأنه نحات ينحت تمثالاً من الكلمات. وفي فترة الأربعينيات والخمسينيات، بلغ إبداعه أوج نضوجه، فكانت قصائده كنوزاً أدبية لا تُقدر بثمن، وقد عبر البابا شنودة عن طفولته المبكرة وعن يتمه شعر، يقول البابا شنودة عن ولادته و يتمه :
أحقًا كان لي أمٌ فماتت؟ أم أني خُلِقت بدون أم؟
رماني الله في الدنيا غريبًا أحلقُ في فضاء مُدلَهِمِّ
وأسال يا زماني أين حظي بأخت أو بخالٍ أو بعم؟!
وهل أقضي زماني ثم أمضي وهذا القلب في عدم ويُتْمِ
وأسأل عن صديق لا أجده، كأني لستُ في أهلي وقومي
وفي هذه الأبيات تعبر عن حالة نفسية عميقة من الألم والوحدة، وهي تعكس تجربة إنسانية مشتركة تتمثل في الشعور بالغربة والضياع في عالم سريع التغير. يمكن اعتبار هذه الأبيات صرخة من أعماق النفس، تعبر عن حاجة ماسة للحب والحنان والانتماء. تحتوي هذه الأبيات على شحنة عاطفية عميقة تعبر عن حالة من الألم النفسي والوحدة العميقة. الشاعر يعيش حالة من التساؤل حول هويته وأصله، يشعر بالغربة والضياع في عالم لا يجد فيه مكاناً له.
ففي الأبيات الأولى تبدأ الأبيات بتساؤل محوري حول وجود الأم، هل هي حقيقة أم مجرد وهم؟ هذا التساؤل يعكس شعوراً عميقاً بالفقدان والحنين إلى الحنان الأمومي، والأبيات الثانية والثالثة: يشعر الشاعر بأنه غريب في هذا العالم، وكأنه قد رمي فيه بلا هدف ولا مأوى. يصف نفسه بأنه يحلق في فضاء مظلم، وهو ما يعبر عن شعوره بالضياع والوحدة. يسأل عن أقاربه وأصدقائه، ولا يجد لهم أثراً، مما يزيد من شعوره بالعزلة. أما في الأبيات الرابعة والخامسة: يتساءل الشاعر عن معنى حياته، وهل هي سوى رحلة قصيرة تنتهي بالموت؟ يشعر أن قلبه يعيش في حالة من العدم واليتم، حتى وإن كان محاطاً بالناس.
والشعور العام في القصيدة التي تعبر عن صفة اليتم في شخصية البابا شنودة تعبر عن الوحدة، وهو الشعور الأبرز في هذه الأبيات، حيث يعبر البابا عن ما مر به في هذه الفترة من حياته بأنه وحيد ومعزول عن العالم من حوله. والشعور بالفقدان، حيث يشعر الشاعر بفقدان الأم والحنان، وهو ما يترك أثراً عميقاً في نفسه. وحتى التساؤل عن الوجود: يسأل الشاعر عن معنى حياته ومكانه في هذا العالم.
وفي هذه الظروف وفي صعيد مصر، حيث تنسج الشمس حياكة ذهبية على حقول القطن، ولد نظير جيد، ورثًا لجذور تمتد في عمق الأرض كأشجار النخيل. كان والده، المرحوم جيد روفائيل، أحد أعيان الصعيد، وقد ورث عن أبيه ملكًا واسعًا من الأراضي الخصبة. أما والدته، بلسم جاد، فكانت من بنوب الحمام، حيث ينبع العود الطيب، وقد جلبت معه مهرًا من الأراضي الزراعية الغنية. هكذا، ولد نظير في حجر ثراء، محاطًا بفيوضات النيل وبهاء الصعيد، ورثًا لتراث عريق وامتدادًا لسلالة عريقة