في ذكرى انتصارات أكتوبر الـ47، لا تزال هناك أسرار وروايات عن بطولات وتضحيات في طي الكتمان لا يُعرف الكثير منها قدمها قادة وضباط وجنود القوات المسلحة البواسل في حرب أكتوبر المجيدة وصنعوا النصر وأعادوا الأرض والعزة والكرامة، ولكنها محفورة في قلوب من عايشوا تلك اللحظات ولازالوا على قيد الحياة، منهم من تركزت «الكاميرات» على وجوههم وبات الجميع يعرفها، وآخرون اكتفوا بأن رفعت مصر رأسها أخيرًا ولم يحظوا بالنصيب الكافي من التكريمات وإلقاء الضوء على بطولاتهم وتضحياتهم.
سعيد الصباغ، 69 عامًا، أحد أبطال انتصار السادس من أكتوبر 1973، والذي ظل منسيًا طيلة السنوات الماضية إلى أن التفتت إليه الدولة أخيرًا من بعد عام 2014 هو وآخرين منسيين صنعوا النصر بدمائهم، وقامت بتكريمهم في العديد من المحافل، حيث يؤكد أن حرب أكتوبر بالنسبة له «مفرخة» للذكريات والمعلومات والأحداث والقصص قد عايَشَها على مدار 17 يومًا حرب بدءً من 6 إلى 20 أكتوبر، منها المحزنة ومنها المفرحة، فكانت تلك الفترة بالنسبة له بمثابة حياة أخرى مختلفة بالكلية عن الحياة العامة.
وأوضح بطل أكتوبر، لـ«أهل مصر»، أنه خريج كلية الأداب جامعة الإسكندرية والتحق بسلاح القوات الجوية وكان قائد موقع 3 بلونات بالجيش الثالث السويس، ورغم كثرة الأحداث والمواقف التي لا تُنسى، إلا أن أهمها موقف الشهيد العظيم يوسف الجنزوري ابن الإسكندرية والذي سيظل محفورًا بداخله، فهو صديق عمره ولم يفارق بعضهما الآخر منذ أن كانا صغارًا وحتى استشهاده، وكان معه أيضًا في ذات الموقع.
سعيد الصباغ أخر «شهيد حي»
وروى «الصباغ»، أنه في يوم 21 أكتوبر وهو اليوم قبل الأخير من انتهاء حرب أكتوبر، حدث إسقاط مظلات للعدو عليهم، وبدأوا في الاشتباك معهم واستُشهد البعض من الطرفين، وأثناء ذلك فوجئ بأحد الجنود يُنادي عليه قائلًا «الحق يافندم يوسف اتصاب»، فأسرع نحوه فوجده ملقى على الأرض يحتضر وقد استقبل مجموعة طلقات في رقبته وعينيه تُغلقان ورغم احتضاره كان ممسكًا بيده اليمنى سلاحه الآلي، وهو سلاح يُطلق 30 طلقة في أقل من ثانية، وكان مستلق على جانبه والدماء تسيل من رقبته ورافعًا سلاحه ويُطلق النيران على جنود العدو المهاجمة للموقع لاحتلاله، فحاول استفاقته إلا أنه كان غير منتبه سوى لإطلاق النيران على جنود العدو وأسقط 3 جنود إسرائيليين بيده اليمني، وفي ذات الوقت رافعًا إصبعه بيده اليسرى وينطق الشهادة حيث يعلم أنه يموت.
وبعيون يملؤها الدمع ونبرة صوت حزينة، استطرد قائلًا: «بعد 47 عامًا لم أنسى ذلك الموقف»، متابعًا أنه بعد حدوث إسقاطات وهروب العدو وبعد انتهاء العملية أسرع مرة أخرى على «يوسف» لمحاولة إفاقته إلا أنه كان قد توفى، فحمله على كتفه حتى لا يأخذه العدو جثمانه، والذي وصفهم بـ«الأوغاد»، للتمثيل به واستغلاله للترويج كذبًا أمام وسائل الإعلام بتحقيقهم انتصارٍ على الجيش المصري، فحمله على كتفه وكانت رقبته تكاد تنفصل عن جسده من كثرة طلقات النيران التي أصابتها، وأثناء هرولته به لمسافة حوالي 150 متر رآه أحد الطيارين الإسرائيليين فاستهدفه بطلقات نارية فأُصيب بطلقة بذراعه الأيسر الذي كان يحمل به صديقه «يوسف» واختلطت دماء بعضهما ببعض ولازالت آثار تلك الإصابة بذراعه حتى الآن.
سعيد الصباغ أخر «شهيد حي»
وتابع أن سيارة نقل الموتى تسلّمت جثمان صديقه كما حضرت سيارة إسعاف لتقله إلى المستشفى لعلاجه من إصابته، إلا أنه رغم وجود اتفاقية دولية وقّعت عليها الدول المتصارعة مثل مصر وإسرائيل تحظر استهداف الوحدات الطبية المتحركة مثل الإسعاف أو الثابتة مثل المستشفى، فقد أطلق العدو صاروخًا على سيارة الإسعاف التي تقلّه هو و5 مصابين آخرين رغم وجود العلامة الطبية على السيارة، فاستشهد المصابين الخمسة وسائق السيارة والمسعف أما هو فقد أنقذته العناية الإلهية حيث انشطرت به «محفة» السيارة لمسافة بعيدًا عن السيارة وموقع الانفجار وأُغمى عليه ولم يستفق إلا وهو داخل مستشفى الجبهة بالسويس داخل غرفة العناية المركزة، حيث أُصيب في رأسه من الخلف وفي جانبه الأيسر وقدمه اليسرى بعدة شظايا، وظل في العناية المركزة 8 أيام وظن الأطباء بأنه قد توفى وتم بالفعل وضع «الشهادة» عليه باسم الشهيد 444 وتم التصريح بدفنه.
وأضاف أن «الجثث كان يتم وضعها داخل كيس من البلاستيك مغلق المسام حتى لا تنفذ من خلاله رائحة الجثة، وهنا حدثت المعجزة الإلهية حيث عندما بحثوا عن كيس لي وجدوا أن الأكياس قد نفدت، فقاموا بتكفيني وصلوا الجنازة عليّ ووضعي في ملاءة وربطها بدلًا من الكيس، وعندما جاءت السيارة الخاصة بنقل جثث الشهداء لدفنها في مقابر الشهداء بالكيلو 61 وأثناء محاولة ممرض يُدعى عم حنا شحاتة، ومعه أشخاص آخرين، حمله لوضعه داخل السيارة فشعر بحرارة جسدي التى نفذت من خلال الملاءة فعلم أنني لازالت على قيد الحياة فأخبر مدير المستشفى بذلك فتم إرجاعي مرة أخرى إلى العناية المركزة بالمستشفى وفي اليوم التالي تم ترحيلي إلى مستشفى القوات الجوية بالقاهرة وكان في استقبالي رئيس قسم جراحة العظام عقيد طبيب محمد أحمد رامي، وكان من بين التقارير الطبية الخاصة بي تقرير خاص بذراعي جاء فيه بضرورة بتر ذراعي الأيسر من الكوع والذي أُصيب بطلقة نارية إلا أن الطبيب محمد رامي كتب على التقرير جملة لم أنساها حتى اليوم: اليد التي حملت السلاح لتحرير الوطن ورد كرامتنا لن تُقطر ولن نقطعها أبدًا بل يجب أن نُقبّلها، وبالفعل لم يقم ببتر ذراعي وقام بوضع مسمار بلاتين وقام بعمل ترقيع للعظم وعاد ذراعي كما كان قبل إصابته دون أية مشكلة».
وفيما يخص إطلاق عليه لقب «الشهيد الحي»، قال إن هناك 6 مقاتلين في حرب أكتوبر لُقّبوا بـ«الشهيد الحي» وهو لقب يُطلق على كل من أشرف على الموت، وجاء هو سادس شهيد حي والأخير، موضحًا أن الشاعر السكندري صبري أبو علم هو من سعى وقام بإنهاء الإجراءات والأوراق المطلوبة بهذا الشأن، وهو وراء إطلاق مسمى الشهيد الحي عليه، مختتمًا حديثه قائلًا: «ظللت منذ عام 73 لم يتم تكريمي أنا وزملائي ممن شاركوا في حرب أكتوبر، إلا بعد عام 2014 حيث بدأت الدولة تلتفت إلينا، وتم تكريمي حوالى 72 مرة حتى الآن».