تشهد محافظة السويداء، جنوب سوريا، توترات حادة واشتباكات دامية بين مكوناتها المحلية والقوات الأمنية، في ظل تحولات عميقة تشهدها المنطقة. تلقي هذه الأحداث بظلالها على مستقبل التعايش السلمي في هذه المحافظة ذات التنوع الثقافي والاجتماعي والديني، وتثير تساؤلات حول قدرة الأطراف المعنية على إيجاد حلول مستدامة.
صراع تاريخي وتحديات معاصرة
تتشابك في السويداء خيوط تاريخية من التوتر بين العشائر البدوية والمجتمع الدرزي. يضاف إلى ذلك تحديات الحاضر المتمثلة في التدهور الاقتصادي، وغياب الخدمات الأساسية، وتصاعد نشاط المجموعات المسلحة، وسلطة حكومية حديثة التأسيس في دمشق. هذه العوامل مجتمعة تجعل من السويداء بؤرة توتر سريعة الاشتعال، في ظل روايات متضاربة تعكس عمق الانقسام وغياب الثقة بين المكونات.
انقسامات داخلية ومرجعيات متضاربة
تتوزع الزعامات في السويداء بين مرجعيات دينية وعائلات ذات ثقل ميداني متفاوت، وتحالفات وخصومات سياسية متباينة. كما تنقسم الفصائل العسكرية الدرزية بين قوى موالية لحكومة دمشق وأخرى معارضة لها بوضوح. ففي حين تعد فصائل مثل "مضافة الكرامة" و"أحرار جبل العرب" حليفة لدمشق، تقف فصائل معارضة أبرزها "المجلس العسكري في السويداء" و"لواء الجبل"، بالإضافة إلى تحالفات جديدة أعلنت قطيعة كاملة مع دمشق، مثل "قوى مكافحة الإرهاب" أو "حزب اللواء السوري".
على صعيد المرجعيات الدينية التقليدية للطائفة الدرزية، التي طالما شكلت المرجع الأعلى في الشؤون الدينية والاجتماعية، بدأت تشهد تبايناً في المواقف. فقد برز الشيخ حكمت الهجري كأحد أبرز الأصوات الرافضة لحكومة دمشق، بينما يفضل المرجع الروحي يوسف جربوع التفاهم مع الحكومة والحفاظ على قنوات التواصل معها. يعكس هذا المشهد انقساماً غير مسبوق داخل البنية الدينية التقليدية، بين مرجعيات تحاول الحفاظ على العلاقة مع الدولة، وأخرى تنحاز تدريجياً لموقف شعبي رافض للسلطة.
رواية العشائر البدوية: مظلومية تاريخية
وسط هذه التوترات، نشبت الأحداث الأخيرة لتعود النيران وتستعر بين الدروز والعشائر البدوية، التي تقدم نفسها كمكون يعاني من تهميش تاريخي ومستمر. بحسب المحامي محمد أبو ثليث، عضو "مجلس عشائر السويداء"، فإن "البدو هم الضحايا الدائمون، يُحمّلون مسؤولية أحداث لم يفتعلوها، ويُعدّون الحلقة الأضعف" في صراع القوى بالمنطقة.
تركز رواية "المظلومية" هذه على أن الدروز، القادمين إلى الجبل قبل نحو قرنين، سعوا إلى "خنق العشائر تدريجياً" وبسط سيطرتهم، مما أدى إلى حرمان البدو من سبل العيش ودفع بنصف عشائر المنطقة إلى الهجرة القسرية. يعتقد البدو أنهم "أبناء الأرض الأصليون"، وأن ما حدث هو استمرار لظلم تاريخي حرمهم من حقوق المواطنة، بما في ذلك الوظائف والتمثيل السياسي والخدمات. يطالب ممثل العشائر بإنهاء هذا الظلم وضمان الحقوق الأساسية، مؤكداً أن البدو لا يريدون المواجهة بل يتمنون العيش بسلام مع جيرانهم.
هوية قلقة ورفض للانفصال
يصف أستاذ الفلسفة السياسية خالد النبواني شعور الطائفة الدرزية، كأي أقلية، بالخطر والتهديد الدائم، مما يدفعها إلى التكتل حول هويتها الخاصة والدفاع عنها. هذا التمركز لا يقتصر على المستوى الرمزي أو الثقافي، بل يمتد إلى التمركز الديموغرافي، مما يعزز تماسكها الاجتماعي ويرسخ الهوية القلقة باستمرار.
على الرغم من هذا الانكفاء النسبي، يدرك الدروز أنهم لا يستطيعون العيش في عزلة تامة عن محيطهم، بل إن علاقتهم به شرط من شروط بقائهم. يوضح النبواني أن التاريخ السياسي للطائفة يظهر رفضاً ثابتاً لفكرة الانفصال، لأسباب متعددة، منها استحالة قيام كيان مستقل، وأيضاً بسبب تعاليم دينية تقوم على عدم مواجهة السلطة. هذه التقاليد الدينية ترسخ مبدأ الاحتماء بالسلطة وليس الاصطدام بها، مما يجعل الدروز جماعة تميل إلى التكيف مع الدولة أكثر من رغبتها في مواجهتها أو الانفصال عنها.
تخلق هذه العلاقة المعقدة بين الالتفاف على الهوية والخوف من العزلة مفارقة جوهرية في البنية النفسية والسياسية للطائفة، مما يجعل الدروز متمسكين بهويتهم الخاصة من خلال حاجتهم الدائمة للآخر، فهم "لا هم قادرون على الاستمرار من دون هذا المحيط، ولا يمكن لهم الذوبان الكامل فيه".