بالنسبة لأغلبنا، تتسرب ذكريات الحياة من بين أيدينا كحبات الرمل، ولكن لقلة قليلة، تظل الأحداث العاطفية عالقة في الأذهان بقوة، إذ تتناول دراسة حالة فريدة من نوعها حالة فتاة مراهقة تُدعى «تي إل»، والتي تتمتع بقدرة مذهلة على تذكر تفاصيل حياتها الشخصية بشكل غير عادي، وتُعرف حالتها باسم فرط التذكر (HSAM)، وهي حالة نادرة جدًا لا يعاني منها سوى أقل من 100 شخص حول العالم.
ما هي حالة فرط التذكر؟
وتعتبر هذه الدراسة هي الأولى التي تُقيّم بشكل شامل قدرة الأفراد المصابين بفرط التذكر على استرجاع أحداث الماضي وتخيل أحداث المستقبل، إذ تسمح هذه القدرة الاستثنائية لـ«تي إل» بالسفر عبر الزمن ذهنيًا، حيث تشعر وكأنها تعيد تجربة الماضي وتعيش المستقبل مسبقًا، وتأمل فالنتينا لا كورتي، أخصائية علم النفس العصبي من جامعة باريس سيتي والمؤلفة الرئيسية للدراسة، أن تساعد قصة «تي إل» العلماء على فهم كيفية قيام الدماغ البشري بتشفير الذكريات واسترجاعها، مما يُسهم في صياغة شعورنا بالهوية والاستمرارية، بحسب ما ذكرت مجلة «science alert» العلمية.
ومنذ طفولتها، كانت «تي إل» قادرة على إعادة إحياء ذكرياتها بتفاصيل حية ومن زوايا مختلفة، في سن الثامنة، كشفت عن قدرتها لأصدقائها، لكنهم اتهموها بالكذب، ما جعلها تحتفظ بهذا السر حتى سن السادسة عشرة خوفًا من أن تبدو غريبة، وعندما أصبحت في السابعة عشرة، قررت الفتاة مشاركة قصتها مع العالم، وفي اختبار للذاكرة، أظهرت قدرة فائقة على تذكر الأحداث الشخصية، مما أكد تشخيص فرط التذكر لديها، ووصفت لا كورت قدرة «تي إل» بأنها غنية بالتفاصيل السياقية والظاهراتية وتتميز بشعور قوي بإعادة التجربة.
غرفة الذكريات البيضاء
وتخزن «تي إل» ذكرياتها الشخصية في ما تسميه «الغرفة البيضاء»، وهي عبارة عن غرفة ذهنية واسعة وذات سقف منخفض، وعلى عكس الحقائق والمعارف العلمية التي لا تحمل أي وزن عاطفي وتصفها بـ«الذكريات السوداء» التي يصعب حفظها، تُخزن الذكريات العاطفية بسهولة في هذه الغرفة، وتشبه هذه الغرفة مكتبة منظمة، حيث يتم ترتيب لحظات حياتها وفق نظام فهرسة معقد، وكل شيء فيها محفوظ بدقة، من الألعاب التي امتلكتها إلى صور عائلتها، ويمكنها أن تسحب أي كتاب عزيز من على الرف لتقرأه، أو تتأمل صور عائلتها وتسترجع تفاصيلها، ومع ذلك، فإن ذكرياتها مرتبة زمنيًا، وتصبح التفاصيل أقل وضوحًا مع مرور الوقت، حيث يمكنها تذكر تفاصيل الأيام القليلة الماضية بدقة، لكنها تتذكر السنوات الأقدم بشكل عام فقط.
الغرف العقلية
لا تستطيع «تي إل» نسيان الذكريات السلبية بسهولة، بل تُخزنها في صندوق داخل الغرفة البيضاء، مثل ذكرى وفاة جدها، بالإضافة إلى ذلك، لديها غرف ذهنية أخرى تلجأ إليها لتنظيم مشاعرها، فعندما تغضب، تذهب إلى «غرفة باردة» بها أكياس ثلج لتهدأ، وعندما تحاول حل مشكلة، تذهب إلى «غرفة صغيرة فارغة» خالية من أي مشتتات.
وعلى الرغم من أن الدراسة لم تتناول الصعوبات التي تواجهها «تي إل»، إلا أنّ آخرين مصابين بفرط التذكر وصفوا تجربتهم بأنها تدفق مستمر وغير قابل للسيطرة وتلقائي للذكريات، ونظرًا لندرة هذه الحالة، فإنه من الصعب تعميم النتائج، وقد نُشرت الدراسة في مجلة Neurocase العلمية.