الامتنان كله لتلك الصدفة التي ظننتها عبثية، فجعلتني أصغى عاما تلو الآخر، لفيروز تشدو من مقام قصي بعيد "ليلة عيد".. الترنيمة المعربة عن لحن "جنغل بلز" ويحسبها البعض لحن كنسي، لكنها لم تكن.
تلك الأنشودة التي تجالسني كل عام في طريقي حتى ألمح أضواء منارة الكاتدرائية، و يشوش عليها همس ألحان فرايحي والطروبارية والتراتيل الليتورجية.. فأتيقن أني أدركت الموعد الأخير: "ما زال هناك حين قبيل دق الأجراس لإعلان وصول الرئيس السيسي لتهنئة الأقباط كعادته التي لا تندمل منذ 7 سنوات، برفقة البابا تواضروس".
أطوف في امتداد شارع رمسيس المكتظ دوماً.. و جلست تارة على الأسفلت لالتقاط صورة تذكارية احتفاء بخلو أحد جانبيه من السيارات والمارة.. أجلس كعادتي في المقعد الأول المخصص للإعلاميين، وأعوام مضت كنت أحتفل خارج بهو الكنيسة أسفل مسرح الأنبا رويس، ننشد سويا لحن "وتي رون أفموه إن راشي" ويعني "حينئذ امتلأ فمنا فرحا"، ونصدح بطروبارية الميلاد "إبؤرو" وتعني "يا ملك السلام".
أتعمد ارتداء الأبيض غالبية القداسات، لآنس بزيهن الأبيض الذي يفترشن به الأثيوبيات الأرض في آخر قاعة المسرح الكبير، يطالعن الأناجيل ويرددن الألحان والصلوات التي يتخللها القراءات الابصالية الخاصة بالعيد و تسبحة العشية، فأترقبهن حتى يفرغن لالتقاط صورة بصحبتهن.
رُؤى وفيرة وذكريات لا تسهو عن كاتدرائية العباسية، حتى حلِلنا بكاتدرائية ميلاد المسيح، سالف الأعوام الثلاثة، ترانيم ذو كصلوجية وتمجيد للبركة، أفعم السكون الذي يصدح به المكان، نُنصت لخورس الشمامسة يرددها فنعيها على بعد أميال، يقينا يجتذبني اللحن القبطي أم أنها تراتيل ترقى عنان السماء!!..
تبزغ زفة الشمامسة، عندئذ أستنبط أنها دقة التاسعة، تصدح الزغاريد وتهليل وتصفيق، كاميرات الهواتف تعلو ونفحات وورود، حين تشهد الأنظار الرئيس السيسي والبابا تواضروس بين زفة روحية من الخورس في كاتدرائية العاصمة الإدارية.
4 أضعاف مساحة كاتدرائية العباسية، وقرابة 12 ألف، أكثرهم مسلمين و كبدهم أقباط.. عموم من في كاتدرائية العاصمة الإدارية يُرتل صلاة الشكر وأرباع الناقوس وأوشية الراقدين، وقراءات الذكصولوجيات ولحن افنوتى ناي نان، و المزمور الفرايحى، والتحاليل ثم الختام.
كالطفل الصغير تتهلل روحي بطقوس الأعياد، فلا أبرحها، عشية وصبيحة قداس الميلاد والقيامة، لعلها تطبب المشقات.. عام الوباء حظر المسلمين كالأقباط من ترديد طروبارية "المسيح ولد فمجدوه"، جمعاء سنطالع بث قداس الميلاد الذي سيكتفي بالبطريرك و رهبان في جوف دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون.
كأنها منتصب ووقفة مع ذواتنا نسترجع سويا كم كنا نتقاسم بمحبة دون تنمر إستثنائي بيننا على معتقد الآخر، نتشارك في إفحام التعصب و نبذ التطرف و شجب علاقات التشنج النائجة عن أيديولوجيات مستحدثة، تلك التي تفرّغ الدين من محتواه الجوهري الذي يهدف إلى إصلاح النفوس وإفراغها من الكراهية والعنصرية، ويبغي زرع بذور التسامح والإيثار والتعايش السلمي المبني على الاحترام المتبادل، فلو أراد الله لجعلنا قاطبة حول معتقد واحد، لكن الأصل في الحياة هو الاختلاف وتبادل الآراء والتفاهم والعيش المشترك، دون أي تمييز أو تفرقة، لنتشارك جميعنا إحتفالات الميلاد مرددين:"المسيح ولد فمجدوه.. المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه.. المسيح على الأرض فارفعوه.. رتلي أيتها الأرض كلها ويا شعوب سبحوه بابتهاج لأنه قد تمجد".