لا يستلزم الحديث عن نجيب محفوظ مناسبة تدعو إلى ذلك، كيوم ميلاده أو وفاته أو ذكرى حصوله على نوبل، وهي الأحداث الثلاثة التي توقظ وسائل الإعلام المصري للحديث عن الرجل ثم تصمت بعدها .
ما زلت مُصّرًا على أن نجيب محفوظ وأدبه لو كان في أمة أخرى لنال من التكريم ما يليق بمثله، وما زالت مصر – خاصة على المستوى الرسمي - تتعامل معه كما لو كان كاتبًا من كُتَّاب الدرجة الثالثة، وما زال التكريم الحقيقي لمحفوظ وهو الجائزة السنوية الأشهر باسمه يأتي من جهة ليست مصرية ولا عربية أصلًا وهي الجامعة الأمريكية في القاهرة.
وما زالت الدورية العلمية المُحكَّمة التي صدرت باسمه بعد وفاته عن المجلس الأعلى للثقافة – بناء على اقتراح صديقه يحيى الرخاوي – تعاني من التوقف بعد صدور أعداد قليلة منها (توقفت منذ عامين تقريبًا)، كما أخبرني بذلك رئيس تحريرها الناقد د. حسين حمودة .
حاورت الدكتور جابر عصفور مرة على هامش مشاركته في معرض تورينو الدولي للكتاب، وقد كان واضحًا الإقبال الشديد من الناشرين الغربيين على الأدب المصري الحديث لترجمته ونشره في أوربا، فقال عصفور: الفضل في ذلك يرجع لنجيب محفوظ، فلولا الرجل وأدبه لما اهتم العالم بنا ولا بأدبنا.
عندما بدأ نجيب محفوظ يكتب في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي كانت هناك معركة يدور أوارها ضد العربية الفصحى، قادها عدد من المستشرقين، والمستعمرين، والمفكرين المصريين للأسف، مثل المستشرق الألماني فيلهلم سبيتا ، ووليم ولكوكس الإنجليزي ، وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد، وعبد العزيز باشا فهمي وغيرهم.
دار غبار هذه المعركة على وهم اختلقه الاستعمار الأجنبي اسمه: الصراع بين العامية والفصحى، كانوا يريدون من خلاله أن تلحق العربية باللاتينية التي اندثرت وبادت، تحت زحف اللهجات المحلية في أوربا.
كان علي محفوظ أن يحدد موقفه: هل يكتب بالفصحى أم بالعامية؟ فخاض الرجل صراعًا عنيفًا مع اللغة العربية أسفر عن موقف مُشرّف انتصر فيه للفصحى، ولكن أية فصحى؟ إنها الفصحى الجميلة السلسلة السهلة التي توظف طاقات العامية أجمل توظيف ولا تتخلى عن التزامها بقواعد اللغة فأضاف للغتنا العربية إضافات عظيمة.
ومن يقرأ أدب نجيب محفوظ ويقرأ له هذه التعبيرات، يدرك ما أقول:
(فُتك بعافية، نفسي انصدت، بيَّاع الفشار، كفى الله الشر، الله يجبر بخاطرك، رَدّ الباب، اخزِ الشيطان، أَعتر فيه، يا بختك، تُشْكر، يا كُسوفي، خدني على قد عقله....).
قيل عن نجيب محفوظ وأدبه الكثير وسيقال الكثير، لكن يبقى محفوظ صانع اللغة الرفيع المستوى، وتبقى لغته الرائقة الممشوقة الجميلة هي كشفه الحقيقي وهي إضافته الحقيقية. وقد جاء في بيان الأكاديمية السويدية عند منحه نوبل : "إن إنجاز محفوظ العظيم والحاسم يكمن فى إبداعه فى مضمار الروايات والقصص القصيرة،..... كما أسهم فى تطور اللغة الأدبية فى الأوساط الثقافية على امتداد العالم الناطق بالعربية".
حقًا لقد فازت اللغة العربية بنجيب محفوظ وأدبه.