عندما خاطبت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، رجال البحرية الأمريكية بقولها "يا رجال البحرية"، وسردت لهم المخاطر التي قد تتعرض لها الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل، بدا لكل من تابع المشهد أن ما كان يثار عن أن الرئيس الأمريكي خارج اللياقة الذهنية وأنه ترك صلاحيات منصبه لنائبته ليس مجرد تكهنات بل حقيقة واقعة، وبالنظر إلى أن خطاب هاريس كان من المرات النادرة في التاريخ الأمريكي التي يخاطب فيها نائب رئيس الولايات المتحدة ضباط أمريكيين في حفل تسلم وتسليم للقيادة.
إذن فما كان حلما أصبح حقيقة الآن، وأصبحت الولايات المتحدة تحت قيادة امرأة من أصول هندية ولدت على الأراضي الأمريكية لأم تاميلية هندية هاجرت للولايات المتحدة قادمة من مدينة مدراس بولاية تاميل نادو الهندية التي لم يعتد سكانها على تناول وجبتين من الطعام يوميا إلا منذ أقل من عشرين عاما فقط.
وفي خلفية مشهد حديث هاريس، كان يقف الرئيس الأمريكي الذي يعد أقرب للمفكر منه للسياسي باراك حسين أوباما بتكوينه الثقافي والاجتماعي بالغ التعقيد، بينما اكتفى الرئيس الأبيض الساكسوني الموجود في البيت الأبيض بمتابعة نائبته عبر شاشات التليفزيون وهى تخاطب ضباط البحرية الأمريكية بخطاب لا يصدر في الغالب إلا عن القائد الأعلى للجيوش الأمريكية.
إن ما فعله أوباما ليس المساعدة فقط في إيصال أمريكيين من أصول أفريقية وأسيوية، مثل هاريس وعشرات المسئولين الآخرين في الإدارة الأمريكية، لسدة السلطة في أكبر وأقوى دولة عرفها التاريخ الإنساني، بل أن أوباما أسس في حقيقة الأمر لنهاية الامبرالية الأمريكية على مستوى النظرية السياسية، فمنذ دخول بايدين وفريقه للبيت الأبيض انهمك هذا الفريق في إلغاء عشرات القرارات التي أصدرها الرئيس السابق دونالد ترامب والتي كانت تمنع الأجانب من القدوم للولايات المتحدة وتعرقل حصول المهاجرين على الجنسية الأمريكية، وحصل عشرات الآلاف من الأسيويين والأفارقة ومن بلدان أخرى على الجنسية الأمريكية بالفعل، ومن المرتقب أن يحصل مئات الآلاف غيرهم على تأشيرات دخول للولايات المتحدة بمجرد تراجع جائحة كورونا.
صعود هاريس لهذه المكانة الرفيعة والاحتمال الكبير لأن تصبح الرئيسة القادمة للولايات المتحدة، وما يصاحب ذلك من تغيير كبير في بنية المجتمع الأمريكي سوف يؤدي إلى وجود محددات جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، ومع الضعف الشديد الذي يعتري اليمين الأمريكي المحافظ وحالة الضعف الجزئي الذي تسبب في ترامب للحزب الجمهوري، سوف يتراجع نفوذ الصهيونية الإنجيلية في المؤسسات الأمريكية، وسوف تنحاز الولايات المتحدة أكثر لصالح الشعوب غير البيضاء خارج الخريطة السكسكونية التقليدية في أوربا العجوز التي ستشهد بدورها تغيرات ديموغرافية بسبب الهجرة الواسعة لبلدان رئيسية فيها، مثل فرنسا وبريطانيا.
هاريس ومن خلفها فريق ضخم من نشطاء اليسار الأمريكي يكتبون الآن تاريخا اجتماعيا وسياسيا جديدا للولايات المتحدة، وسوف يحول هؤلاء خلال العقدين القادمين على الأكثر بوصلة السياسة الخارجية الأمريكية، ولن تصبح الولايات المتحدة في المستقبل على استعداد لأن تحارب للدفاع عن إسرائيل، وهو جانب مهم من هذا التغير يتصل بمصالحنا مباشرة على اعتبار أن إسرائيل في نهاية المطاف هى دولة خصم على حدودنا الشرقية لكن أهم ما في هذا كله هو أن نكون مستعدين للتعاطي بوعى مع هذا الفكر الأمريكي الجديد المفيد لنا وللعالم.