على شاطئ البحر المتوسط، في مدينة مرسى مطروح، يتشكل مشهد جديد من التعاون العربي.
هناك، حيث تلتقي الرمال الذهبية بالمياه الزرقاء، تطلق شركة «الديار القطرية» مشروعًا استثماريًا ضخمًا لتطوير منطقة «علم الروم» بالشراكة مع الدولة المصرية، على مساحة تقارب 60 ألف فدان، وفق نظام حق الانتفاع الذي يحافظ على ملكية الأرض للدولة، ويضمن تدفق الاستثمار والتنمية معًا.
لكن المشروع لا يقف عند كونه استثمارًا عقاريًا أو سياحيًا فحسب، بل يُعد إشارة رمزية إلى تحوّل نوعي في العلاقات المصرية–القطرية، ورسالة بأن التعاون الاقتصادي يمكن أن يصبح جسرًا جديدًا لتقوية الروابط السياسية العربية من جديد.
رؤية اقتصادية تعيد رسم الخريطة
اختيار مطروح لم يأت من فراغ؛ فالمحافظة تمثل الامتداد الطبيعي للتنمية العمرانية التي انطلقت من العلمين الجديدة، وتمتلك موقعًا مميزًا يجعلها بوابة مصر الغربية نحو البحر المتوسط.
من هذا المنطلق، يشكل المشروع إضافة قوية إلى خطط الدولة لتنمية الساحل الشمالي الغربي، وتوسيع رقعة الاستثمار والسياحة خارج نطاق العاصمة والدلتا.
ومن الجانب القطري، يعبّر المشروع عن ثقة واضحة في قوة السوق المصرية واستقرارها، في وقت يبحث فيه المستثمرون عن وجهات آمنة ومستقرة في المنطقة.
إنها رؤية اقتصادية تتجاوز الربح المباشر، لتصنع تحالف مصالح طويلة المدى بين دولتين عربيتين لهما ثقل إقليمي واضح.
نموذج شراكة ذكي
جوهر هذه الشراكة أنها قائمة على حق الانتفاع لا البيع، أي أن الدولة المصرية تظل صاحبة الأرض والسيادة عليها، بينما يتحمل المستثمر القطري تكلفة التطوير والبناء والإدارة لفترة زمنية محددة.
وبذلك تجمع الصيغة بين جذب رأس المال العربي والحفاظ على الثروة الوطنية، وهي معادلة دقيقة نجحت الدولة المصرية في تطبيقها خلال السنوات الأخيرة مع عدد من الشركاء الإقليميين.
هذا النموذج يعبّر عن سياسة اقتصادية جديدة تتبناها القاهرة، تقوم على تحويل العلاقات العربية من منح ومساعدات إلى استثمارات وشراكات حقيقية، تحقق الربح للطرفين وتبني الثقة على أساس المصالح المتبادلة.
ما بين الفرص والتساؤلات
من الطبيعي أن يرحّب المصريون بمشروعات بهذا الحجم، لكنها تثير أيضًا تساؤلات مشروعة:
هل يمكن أن تمس هذه الاستثمارات السيادة الوطنية؟
هل تذهب مكاسبها فعلاً إلى المواطن البسيط؟
وهل يضمن «حق الانتفاع» ألا تتحول الأرض في النهاية إلى ملكية غير مصرية؟
هذه التساؤلات تعكس وعيًا مجتمعيًا صحيًا، لا خوفًا.
فالمشروع — كما تؤكد مصادر حكومية — يخضع لرقابة كاملة من الدولة، ولا يتضمن أي بيع للأراضي، بل استثمار محدد المدة تُستعاد بعده الأرض وكل منشآتها لصالح الدولة المصرية.
إنه شكل من التنمية المشتركة تحت سيادة مصرية كاملة، لا تفريط فيه ولا تنازل.
مكاسب المواطن المصري
الفائدة التي تعود على المواطن ليست رمزية.
فالمشروع سيوفر آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وينشّط الحركة التجارية في مطروح والمناطق المجاورة.
كما سيدفع الدولة إلى تطوير البنية التحتية من طرق وخدمات ومرافق، وهي استثمارات تبقى للناس حتى بعد انتهاء المشروع.
وعلى المدى الأبعد، تسهم مثل هذه المشروعات في رفع ثقة المستثمرين الأجانب والعرب في الاقتصاد المصري، ما يعني مزيدًا من تدفق الاستثمارات وفرص العمل الجديدة في محافظات أخرى.
إنها حلقة متكاملة: يأتي الاستثمار، تتحرك التنمية، تتحسن الخدمات، ويستفيد المواطن في النهاية — سواء كان من أبناء مطروح أو من أي محافظة أخرى.
رسالة سياسية بلسان الاقتصاد
قد يبدو المشروع اقتصاديًا في ظاهره، لكنه يحمل رسالة سياسية عميقة:
أن العلاقات المصرية–القطرية تجاوزت مرحلة التوتر، ودخلت مرحلة التعاون القائم على المصلحة المشتركة.
إنها عودة إلى منطق “العروبة العملية” — حيث تُبنى الثقة بالأفعال لا بالشعارات.
هذا المشروع يرسل للعالم العربي كله إشارة بأن مصر وقطر يمكن أن تختلفا في السياسة، لكنهما تتفقان على التنمية، وهو ما يعيد تشكيل مفهوم جديد للوحدة العربية في زمن التحديات الاقتصادية والسياسية.
رأي عام
في الشارع المصري، تتباين الآراء لكن يجمعها الأمل والحذر معًا.
البعض يرى أن المشروع خطوة مهمة نحو جذب الاستثمارات العربية بدل الأجنبية، وأنها بداية حقيقية لاستعادة الثقة في الاقتصاد المصري.
بينما يتساءل آخرون عن ضمانات الشفافية، وعن مدى استفادة المواطن العادي من هذه الشراكات الكبرى.
اللافت أن الغالبية لا ترفض الفكرة، بل تطالب فقط بأن تكون الرقابة والمكاسب موزعة بعدالة.
فالمصري يريد أن يرى نتائج التنمية في فرص عمل حقيقية، وخدمات محسّنة، لا مجرد أرقام في البيانات الرسمية.
وهو ما يجعل نجاح المشروع مرهونًا بقدرة الدولة على أن تبرهن — بالفعل لا بالوعود — أن التنمية لا تُصنع فقط في الاجتماعات، بل على أرض الناس وبين بيوتهم.
مضمون الشراكه
«ديار قطرية وشراكة مصرية» ليست مجرد عنوان لمشروع في مطروح، بل عنوان لمرحلة جديدة من التفكير العربي المشترك.
فالعلاقات بين الدول لم تعد تُقاس بالشعارات، بل بالمشروعات التي تبني وتوظف وتخلق الأمل.
ولعل أجمل ما في التجربة أن الدولة المصرية تضع مصلحة المواطن في مقدمة المعادلة، لتؤكد أن التعاون العربي لا يعني التفريط، بل يعني أن تفتح أرضك للاستثمار دون أن تتنازل عن سيادتك عليها.
هكذا تُصنع التنمية الحقيقية: بشراكات تحترم السيادة، وتخدم المواطن، وتعيد الثقة بين الأشقاء.