في كل جيل يولد وجه جديد يحمل في عينيه دهشة البداية وشغف الحلم. وجه يلمع بين وجوه كثيرة، ليس لأنه الأجمل أو الأجرأ، بل لأنه الأصدق.
من بين هؤلاء جاءت هنا مصطفى أحمد — ممثلة شابة تتقاطع في ملامحها براءة الطفولة مع يقظة الفنانة التي تعرف طريقها، وإن كان ما زال ممتدًا ومليئًا بالعقبات والأمل.
حين ظهرت هنا على خشبة المسرح في العرض الأخير من مسرحية «الاستعراض الأخير»، لم يكن المشاهد العادي يعرف اسمها. لكنها في الدقائق الأولى، جعلت الجميع يلتفت. لم يكن الأمر صدفة ولا حيلة إخراجية، بل كان حضورًا يفرض نفسه بهدوء، كما تفرض الوردة جمالها في صمت.
على خشبة الحلم
كانت الاستعراض الأخير مسرحية تخلط بين التمثيل والرقص التعبيري والغناء الحي، عملًا يجمع بين الدراما والفانتازيا، يدور حول فرقة مسرحية تواجه لحظاتها الأخيرة قبل أن يُغلق الستار للأبد. المخرج اختار أن تكون الرقصة الأخيرة في العرض رمزًا للحياة، والحركة التي تقاوم الموت.
وسط هذا الخليط الفني، برزت هنا مصطفى أحمد بدور الفتاة التي تحاول إحياء الفرقة، لا بالكلام، بل بالرقص، بالإيماءة، بالحركة التي تصرخ دون صوت. كانت تؤدي الرقصة التعبيرية كما لو كانت تكتب سطورًا جديدة في دفتر المسرح، بلغة الجسد والعين والنَفَس.
لم يكن أداؤها مجرد تنفيذ لتدريب أو بروفة، بل كان عيشًا كاملاً في الدور. هناك لحظة حين تتقدم إلى منتصف الخشبة، الضوء ينساب عليها وحدها، تصعد ذراعها ببطء، تلتفت كمن يبحث عن ماضٍ ضائع، ثم تسقط فجأة كما يسقط الحلم. في تلك اللحظة، لم يكن في القاعة صوت إلا أنفاس الجمهور. هذا هو المسرح حين يصدق، وتلك هي هنا حين تكون هي نفسها: حقيقية حتى الوجع.
ولدت من الخشبة لا من الكواليس
من السهل أن تدخل التمثيل لأنك تعرف أحدًا، لكن من الصعب أن تدخل لأنك لا تعرف أحدًا سوى نفسك.هنا جاءت من المقاعد الخلفية، من تلك المنطقة التي يقف فيها الحلم مترددًا، لا يملك سوى الإصرار. بدأت بتدريبات صغيرة في الجامعة، شاركت في عروض للهواة، ثم تقدمت إلى فرق شبابية مستقلة، تبحث عن نصٍ يمنحها مساحة للتعبير.
لم تكن تبحث عن الشهرة، بل عن التجربة. كانت تقول لزملائها دائمًا:
«أنا عايزة أعيش الدور مش أتصوره.»
ولذلك حين جاءتها فرصة المشاركة في الاستعراض الأخير، لم تسأل كم دقيقة ستظهر، بل سألت: «هو الدور صادق؟».
ربما ما يميز هنا أكثر من غيرها هو هذا المزج النادر بين الأداء التمثيلي والرقص التعبيري. فهي لا تعتبر الرقص مجرد حركة، بل تعتبره «كلمة بدون حروف».
حين تتحرك، تبدو وكأنها تحكي سيرة ذاتية لجيل كامل من الشباب، يحاول أن يقول شيئًا وسط ضجيج العالم.
لقد درست الحركة المسرحية بشكل تجريبي، وقرأت عن مدارس التعبير الجسدي في أوروبا، لكنها في النهاية اختارت أن تصنع لغتها الخاصة — لغة مصرية خالصة، فيها حرارة الشارع وصدق الانفعال وبساطة القلب.
المخرج الذي شاهدها لأول مرة قال بعد العرض:
«لم أحتج أن أوجهها كثيرًا... كانت تعرف متى تصمت، ومتى تترك جسدها يتكلم.»
الاستعراض الأخير... مسرحية عن النهاية والبداية
العرض نفسه كان تجربة فنية جريئة. نص يقترب من الفلسفة دون أن يبتعد عن القلب. يحكي عن فرقة مسرحية تقف على شفا الانهيار، وكل ممثل فيها يرى المسرح بطريقته: واحد يراه مصدر رزق، وآخر يراه فنًا مقدسًا، وثالث يراه بيتًا ينهار.
أما هنا فكانت تجسد الروح التي تحاول أن تُبقي النور مشتعلاً. لم يكن الدور الأكبر في عدد الكلمات، لكنه الأكبر في المعنى.
حين تنتهي المسرحية، يظل الجمهور جالسًا في الصمت، يسمع صدى الموسيقى الأخيرة، ويرى هنا مصطفى أحمد تخرج من بين الظلال كأنها تقول:
«ما فيش استعراض أخير... طول ما في حلم، في بداية جديدة.»
حلم لا يتوقف عند الخشبة
هنا
لكن ما يثير الإعجاب في هذه الفتاة ليس فقط أداؤها، بل طريقتها في التفكير في المستقبل. فهي تحلم بأن تصبح مؤلفة أو مترجمة، تؤمن أن الكلمة هي الوجه الآخر للمسرح، وأن الفنان الحقيقي لا يقف عند حدٍ واحد.
تقول بابتسامة خجولة:
«أنا بحب أكتب أكتر ما بحب أتكلم. نفسي أكتب مسرحية وأمثلها كمان.»
هي تقرأ الأدب العالمي بفضول المترجمة، وتدوّن أفكارها عن الشخصيات والحوار واللغة.
حين تسألها عن السبب، تقول:
«الكلمة زي الرقصة، بس بتتكلم جوه دماغك مش على المسرح.»
تلك الجملة وحدها تكشف عن عقل فنانة تعرف أن الفن فعل حياة لا مهنة عابرة.
شغف البدايات
من يشاهد هنا مصطفى أحمد في الكواليس يدرك أنها ما زالت في بداية الطريق، لكنها بداية مختلفة.
هي لا تستعجل الشهرة، ولا تركض وراء الأضواء. كل ما تريده هو أن تتقن، أن تفهم، أن تتطور. في زمن يبحث فيه كثيرون عن الشهرة بأي ثمن، هي تبحث عن الصدق، عن أن تكون ممثلة حقيقية.
تقول لزملائها دائمًا:
«المسرح مش بيتجمل، المسرح بيكشف.»
وهذه الجملة تكفي لتعرف أن ما تفعله هنا ليس مجرد هواية، بل رسالة صغيرة تؤمن بها: أن الفن يمكن أن يغيّر الإنسان، وأن الجمال الصادق لا يحتاج إلى ميكروفون، يكفيه أن ينبض من القلب.
في زمن السرعة... تمشي بخطى الوعي
ربما أجمل ما في هنا مصطفى أحمد أنها تسير بخطى هادئة في زمنٍ سريع. تعرف أن الطريق إلى الفن الحقيقي ليس في «الترند» ولا في «اللايك»، بل في الإتقان، في التجربة، في كل بروفة تُعاد عشر مرات، وكل لحظة صدق تُنتزع من التعب.
هي من ذلك النوع النادر من الفنانين الذين يقرأون قبل أن يمثلوا، ويفكرون قبل أن يتحركوا، ويشعرون قبل أن يتكلموا.
الاستعراض الأخير... بداية لا تنتهي
بعد انتهاء عرض الاستعراض الأخير، خرج الجمهور من القاعة وبينهم من يبكي، ومن يصفق في صمت، ومن يقول: «دي بنت هتبقى كبيرة».
ولعل هذه الجملة تختصر الحكاية كلها. لأن «الاستعراض الأخير» لم يكن نهاية شيء، بل كان بداية رحلة.
رحلة ممثلة شابة اسمها هنا مصطفى أحمد، خرجت من بين الأضواء الصغيرة تحمل في قلبها ضوءًا كبيرًا.
قد تمر الأيام، وتتغير الأسماء، وتُعرض عشرات المسرحيات بعد ذلك، لكن سيبقى هذا العرض علامة فارقة في مسيرتها. لأنه العرض الذي قدّمها إلى الجمهور، واللحظة التي التقت فيها بقدرها الفني لأول مرة.
حين يصبح الحلم حقيقيًا
في كل مرة تظهر فيها هنا مصطفى أحمد على المسرح، تشعر أنك ترى الحلم وهو يمشي على قدمين.
في ملامحها صدق، وفي حركتها وعي، وفي صوتها رغبة هادئة في أن تكون جزءًا من هذا العالم الجميل الذي اسمه المسرح.
هي تعرف أن الطريق طويل، لكنها لا تخاف. تعرف أن النجاح لا يُمنح، بل يُنتزع بالجهد والتعلم والإصرار.
وفي النهاية، حين تسدل الستارة وتغيب الأضواء، يبقى شيء واحد لا يختفي: ذلك الإيمان الصغير الذي يسكنها بأن الفن قادر أن يجعل الإنسان أفضل.
وهذا، في رأيي، هو أعظم ما يمكن أن تحمله ممثلة شابة في بدايتها.
أن تؤمن بالفن كما يؤمن الطفل بالحلم، وكما تؤمن هنا مصطفى أحمد بأن كل استعراض أخير... هو في الحقيقة بداية جديدة.