ads
ads

محمد مختار يكتب لكم من مقهى سولافة .. مع صديقي محمد الحكيم : غزة تدخل الغرب في دين الله أفواجا

محمد مختار
محمد مختار

قابلته مجددا يرتاد مقهى «سولافة» في فيصل، أسعد كل مرة يجلس فيها معي ويصر هو على دفع حساب القهوة والشاى ويشتري لي باكو بسكويت صرت انتظره كطفل ينتظر قطعة حلوى ، هو صديقي محمد الحكيم الذي التقى به على مقهى سولافة ويستمع، ويقاطع أحيانًا، ثم يلوذ بالصمت. هناك، حيث تدير سولافة — السيدة السودانية — مقهى صغيرًا بنَفَسٍ كبير، تختلط لهجات المصريين والسودانيين، وتتمازج القهوة السادة بالشاي الثقيل، وتجلس السياسة إلى جوار الحكايات اليومية بلا تكلف. في «مقهى سولافة»لا أحد يتحدث من منصة، ولا أحد يملك الحقيقة كاملة. المكان نفسه يعلّم التواضع: طاولات خشبية بسيطة، صورٌ باهتة على الجدران، وشاشة فضائية الجزيرة تلتقط الأخبار كما يلتقط الناس هنا الوجع. ومع ذلك، كلما جلسنا أنا وصديقي محمد الحكيم، عادت فلسطين إلى الطاولة، كأنها ضيفة لا تُغادر.

يبدأ محمد الحكيم — في كل مرة تقريبًا — من النقطة ذاتها، لا لأنه يكرر نفسه، بل لأنه يرى فيها أصل المسألة. يقول بهدوءٍ لا يخلو من مرارة: «أخطأت حماس. ضحّت بشعبها من أجل حماس، لا من أجل فلسطين». لا يرفع صوته، ولا يشير بيده. يكتفي بهذه الجملة، كمن يضع حجرًا ثقيلًا في منتصف الطاولة. أستمع، كما تعلّمنا من لقاءاتٍ سابقة، قبل أن أرد. في مقهى «سولافة» لا يُقاطع الحديث، حتى سولافة نفسها — حين تمرّ لتضع الأكواب — تُنصت أكثر مما تتكلم. أقول له: «ربما أخطأت حماس في الحسابات، وربما دفعت غزة ثمنًا فادحًا. لكن ما فعلته — في لحظةٍ كان فيها الصمت يوشك أن يتحول إلى قبول — أنها أشعلت جذوة المقاومة التي كادت تخبو».

مقهى سولافا صورة افتراضيةمقهى سولافا صورة افتراضية

يرفع محمد الحكيم حاجبيه: «وأي جذوة هذه التي تُشعل مدينةً كاملة؟ القضية الفلسطينية — يا صديقي — كانت تمضي نحو الاندثار بسبب ما جرى». ثم يضيف، وكأنه يختبر العبارة على مسمعه: «العالم لا يتعاطف مع القضايا حين تُغرق نفسها في الدم». أشير إلى الشارع، إلى المارة، إلى شاشة هاتفٍ تُظهر مظاهرة في مدينةٍ أوروبية بعيدة، وأقول: «قبل غزة، كانت فلسطين خبرًا قديمًا. بعد غزة، صارت سؤالًا يوميًا. خرجت من كونها القضية العربية المركزية فقط، لتصبح قضيةً عالمية، تُناقش في الجامعات، وتُحاكم في الصحافة، وتُجادل في البرلمانات». ليست المسألة في عدد المتعاطفين، بل في كسر دائرة النسيان.

في هذه اللحظة، يتدخل رجلٌ سوداني يجلس إلى الطاولة المجاورة، ثم يكتفي بهزّ رأسه موافقًا. تمرّ سولافة، تضع الأكواب، وتقول جملةً قصيرة تُشبه الحكمة: «الكلام كتير، لكن الوجع واحد». ثم تمضي. يعود محمد الحكيم إلى سؤاله الأثقل: «هل تسمي تدمير غزة وقتل عشرات الآلاف من أبنائها انتصارًا؟». هنا، يصمت المقهى لحظة. لا لأن السؤال جديد، بل لأنه لا يحتمل الإجابة السريعة. أقول: «لا. لا أسميه انتصارًا. الانتصار ليس كلمة نوزعها على الخراب. لكن دعنا نسأل السؤال كاملًا: هل كل ما ليس انتصارًا يُعد هزيمة؟».

وأضيف، وأنا أحرّك فنجان القهوة: «إسرائيل، باعترافها، فقدت في هذه الحرب آلاف القتلى والمعاقين من ضباط وجنود جيشها. صورة الجيش الذي لا يُقهر — وهي أهم أسلحتها — تكسّرت. هذا لم يحدث لها بهذه الكثافة في كل الحروب العربية السابقة». لا أقول ذلك احتفالًا بالموت، بل توصيفًا لتحولٍ سياسيٍّ ومعنويٍّ لا يمكن تجاهله.

يهزّ محمد الحكيم رأسه ببطء: «لكن الثمن؟». ثم يضيف، وكأنه يخشى هذه الجملة: «الشباب العربي يفقد الثقة في كل شيء وهو يرى القتلى كل يوم على الشاشات». أوافقه دون تردد. فقدان الثقة هو الهزيمة الأعمق؛ هزيمة لا تُقاس بعدد الصواريخ، بل بعدد القلوب التي تنسحب من المعنى. وأطرح على صديقي محمد الحكيم هذا الطرح المعاكس : صمود أهل غزة تحت وطأة القصف والحصار لم يكن مجرد مقاومة سياسية أو إنسانية، بل كان علامة على قوة الإيمان التي تهز القلوب. هذا الثبات العميق ألهم الكثيرين في أوروبا — أفرادًا وجماعات — لدخول دين الله أفواجًا، بعد أن بحثوا عن الإسلام هذا الدين الغريب الذي يجعل المؤمنين به يقاتلون وهم يعرفون أنهم سوف يموتون ليس بفعل دعوة مباشرة، بل بفعل رؤية الإيمان الصادق يثبت وسط المحن. رأوا رجالا ونساءً لا يساومون على كرامتهم، ولا ينهارون أمام آلة الحرب، فأسال ذلك في قلوبهم سؤال الإيمان، وفتح لهم أبواب الدين التي لم يكونوا يتصورون فتحها. هنا يظهر الإيمان كقوة، كضوء، وكمعنى للحياة، أكثر من كونه مجرد عبادة، وأكثر من كونه هوية، ليصبح صمود غزة درسًا روحيًا لا يُنسى.

من هنا، يبدأ التاريخ في التسلل إلى حديثنا، لا بوصفه أرشيفًا، بل بوصفه مرآة. أقول له: «دعنا نعود قليلًا إلى 1948». يومها، قيل إن فلسطين انتهت، وإن النكبة أغلقت الصفحة إلى الأبد. خسر العرب الحرب، وخسرت فلسطين الأرض، لكن القضية وُلدت كقضية عالمية عن الظلم والاستعمار. الهزيمة العسكرية لم تُنهِ السؤال، بل أطلقته. في 1967، كانت الصدمة أشد. هزيمة خاطفة، وسقوط القدس، واتساع الاحتلال. يومها، جلس المثقفون العرب في المقاهي نفسها، يتساءلون: هل انتهى كل شيء؟ لكن من قلب تلك الهزيمة، وُلدت المقاومة الفلسطينية الحديثة، لا كبديلٍ عن الجيوش فقط، بل كاعترافٍ مرّ بأن المعركة طويلة، وأن ميزان القوة لا يُقاس بالدبابات وحدها.

أذكر لمحمد الحكيم بيروت 1982. يتنهد ويقول: «كان ذلك انكسارًا». أجيبه: «نعم، لكنه كان أيضًا لحظة انتقال». خرجت المقاومة من بيروت تحت القصف، لكن القضية خرجت معها إلى العالم: إلى العواصم، إلى الإعلام الدولي، وإلى ضميرٍ بدأ يرى الفلسطيني كإنسان لا كخبر أمني. بيروت لم تكن نهاية، بل فصلًا مؤلمًا في كتابٍ لم يُغلق.

ثم جاءت أوسلو. أتذكر المصافحة الشهيرة، وكيف انقسمنا يومها بين من صدّق ومن صمت ومن حذّر. قيل إن السلاح انتهى، وإن السياسة ستتكفل بالباقي. وبعد سنوات، اكتشفنا أن سلامًا لا يُنهي الاحتلال، ولا يوقف الاستيطان، ولا يردّ الحقوق، لا يصنع دولة، بل يؤجل الانفجار. أوسلو غيّرت شكل القضية، لكنها لم تُنهِ جوهرها.

أقول لمحمد الحكيم: «من هذا التاريخ المتراكم نفهم أن ما جرى في غزة ليس خارج السلسلة، بل داخلها. هو ليس البداية، ولا النهاية، بل حلقة أخرى في مسارٍ طويل، تتعاقب فيه الهزائم والانبعاثات، الصمت والانفجارات». يردّ: «لكن هل كان يمكن إشعال جذوة المقاومة بكلفةٍ أقل؟». سؤال مشروع. أسئلة أخرى تتبعه: هل كان يمكن حماية المدنيين أكثر؟ هل تُقاس النتائج بعد أسابيع أم بعد سنوات؟ أسئلة لا يجيب عنها الهتاف، ولا تُسكتها التخوينات.

في المقابل، أسأل: «هل كان استمرار الوضع السابق — حصارٌ خانق، واستيطانٌ متسارع، وتطبيعٌ إقليمي — سيقود إلى نتيجةٍ أفضل؟ أم كان سيقود، بهدوءٍ بارد، إلى تآكل القضية حتى تختفي من الذاكرة العامة؟».

يبتسم رجلٌ مصري خمسيني كان يستمع من بعيد، ويقول: «حتى الدين عاد إلى النقاش». ألتقط الخيط وأقول: «الغرب — الذي اعتدنا أن نراه كتلةً واحدة — انتبه. رأينا طلابًا، ومثقفين، ونقابات، وكنائس، يسألون: كيف يحدث هذا؟ ولماذا؟». لأول مرة منذ زمن طويل، تُحاصر الرواية الإسرائيلية في عقر دارها، لا بالسلاح، بل بالأسئلة.

ويضيف آخرون أن كثيرين اقتربوا من الإسلام، أو أعادوا النظر فيه، متأثرين بما رأوه من ثبات أهل غزة. ليست المسألة أرقامًا ولا معجزات، بل دلالة: المعاناة حين تُرى بلا تزويق تهزّ اليقينيات الراسخة.

في «مقهى سولافة»، لا أحد يدّعي النقاء. نعرف أن حماس ليست فكرةً مجردة، وأن غزة ليست مسرحًا للرموز. هناك أخطاء، وربما أوهام، وحساباتٌ لم تكن دقيقة. السياسة — كما علّمنا التاريخ — ليست ساحةً للملائكة، بل مجالًا للاختيار بين الممكن والأسوأ. غزة، في هذه الجلسات المتواصلة، ليست خبرًا عاجلًا، بل امتحانًا لمعنى الإنسانية في عصر الصورة السريعة. إسرائيل ربحت معارك نارية، لكنها خسرت كثيرًا من رصيدها الأخلاقي. وحماس ربحت إعادة وضع القضية في القلب، لكنها دفعت — ودفع أهل غزة معها — ثمنًا فادحًا.

أقول لمحمد الحكيم ونحن نستعد للمغادرة: «ربما نختلف اليوم، وربما سنختلف غدًا. لكن ما لا يجب أن نختلف عليه هو أن الفلسطيني — أيًّا كان موقفه — ليس رقمًا، ولا أداةً، ولا وقودًا». يوافقني بإيماءة صامتة.

تلوّح لنا سولافة من خلف الطاولة وتقول: «تعالوا بكرة». نبتسم. نعرف أننا سنعود. فهذه الحوارات — مثل القضية نفسها — لا تنتهي في جلسة، ولا تُحسم في مقال. هي أسئلةٌ مفتوحة، تُطرح على مهل، فوق فنجان شاي، في مقهى صغير بفيصل، حيث يلتقي المصري بالسوداني، وتجلس فلسطين بينهما، بلا ضجيج، لكنها حاضرة بثقلها كله.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً