ads
ads

محمد مختار يكتب لكم من مقهى سولافة .. مع صديقي محمد الحكيم : سينما العقل وسينما الغرائز

محمد مختار
محمد مختار

على مقهى سولافة، حيث لا تُشرب القهوة وحدها، بل تُشرب معها الذكريات والآراء والخصومات المؤجلة، جلستُ مع صديقي محمد الحكيم. المقهى يعرفنا جيداً؛ طاولة في الركن، كراسي متعبة، ونادل يحفظ طلباتنا أكثر مما نحفظ نحن قناعاتنا.

وكعادتنا، لم نتفق على موضوع، لكننا انتهينا — ككل مرة — إلى السينما. كأن السينما امرأة قديمة عرفناها في شبابنا، وكلما التقينا عدنا للحديث عنها: هل كانت أجمل حين عرفناها أول مرة؟ أم صارت أكثر صدقاً حين كبرنا؟

قلت له وأنا أدوّر فنجان القهوة بين أصابعي:

— أتعرف يا حكيم؟ كلما أعدت مشاهدة الأفلام، ازددت اقتناعاً بأن سينما التسعينيات كانت أفضل من الأجيال التي سبقتها.

رفع رأسه فجأة، وكأنني مسستُ تمثالاً من البرونز، وقال بنبرة من يدافع عن تاريخ عائلي:

— أفضل؟! وكيف تقول هذا؟ وماذا تفعل بالجيل الذهبي؟ جيل فريد شوقي، ومحمود المليجي، ومحمود مرسي، وعمر الشريف، وفاتن حمامة، وصلاح ذو الفقار، ورشدي أباظة، وأحمد مظهر، وهند رستم، وسامية جمال؟ هؤلاء لم يكونوا ممثلين… كانوا أساطير.

ابتسمت. لم أكن أريد هدم الأساطير، فقط أردت أن أزيح عنها الغبار. قلت له:

— نعم، هو جيل ذهبي، لكنه ذهب كان يلمع أحياناً أكثر مما يدفئ. كثير من أفلامه اعتمدت على الجسد باعتباره اللغة الأسرع إلى الجمهور. رقصة هنا، قبلة هناك، مشهد حب يُقحم حتى لو كان السياق لا يحتاجه. خذ أفلام السبعينيات مثلاً، حيث تحولت البطلة في كثير من الأحيان إلى “استعراض”، لا إلى شخصية من لحم ودم.

هزّ الحكيم رأسه كمن لا يزال متردداً، فتابعت:

— لا أتهم أحداً، ولا أرفع راية الطهرانية، لكنني أقول إن السينما في تلك الفترة كثيراً ما اختزلت الصراع الإنساني في غرفة نوم. البطل يُهزم هناك، وينتصر هناك، ويثور هناك. وكأن المجتمع بكل تعقيداته — الفقر، القهر، السلطة، الحلم — لا يُرى إلا من ثقب السرير.

سكتُّ قليلاً، ثم أضفت:

— انظر إلى أفلام الثمانينيات التجارية، ستجد أن الوصفة تكاد تكون واحدة: بطل قوي، امرأة جميلة، صراع يُحل بالقبلة الأخيرة. أما جيل التسعينيات، فقد حاول — وأشدد على كلمة حاول — أن يكسر هذه الدائرة.

مقهى سولافا صورة افتراضيةمقهى سولافا صورة افتراضية

نظر إليّ الحكيم باهتمام حقيقي هذه المرة، فقلت:

— في التسعينيات، ظهرت أفلام مثل إسماعيلية رايح جاي، التي لم تكن مجرد كوميديا، بل بياناً غير معلن عن جيل جديد: شباب عاطلون، يحلمون، يفشلون، ويضحكون على فشلهم. ثم جاء الناظر، ليحوّل المدرسة — رمز السلطة الصغيرة — إلى مرآة للمجتمع كله. لم نحتج إلى جسد عارٍ لنضحك أو نفهم، بل إلى موقف إنساني صادق.

وأكملت:

— محمد هنيدي لم يكن بطلاً رومانسياً تقليدياً، بل شاباً عادياً يشبهنا. أحمد حلمي في عبود على الحدود لم يبعنا وهماً، بل سخر من فكرة البطولة نفسها. كريم عبد العزيز في الباشا تلميذ وحرامية في كي جي تو كان ابن الشارع، لا فتى الأحلام. حتى محمد سعد، رغم المبالغة، قدّم شخصية المهمش الذي يضحك لأن البكاء لم يعد مجدياً.

قلت له وأنا أبتسم:

— لم نشاهد هؤلاء وهم يستعرضون رجولتهم في مشاهد فاضحة، ولا وهم يحتسون الخمر ليقنعونا بأنهم أذكياء وبارعون. كانوا أقرب إلى الناس، إلى الشارع، إلى القلق اليومي البسيط.

تنهد الحكيم وقال:

— ربما لأن الزمن تغيّر، والجمهور تغيّر.

قلت وأنا أنهض من مكاني:

— أو لأن السينما، مثل الإنسان، تمر بمراحل. تفتن بالجسد، ثم تكتشف العقل، ثم تحاول — أحياناً — أن توازن بينهما.

تركنا مقهى سولافة، وبقي السؤال معلقاً فوق الطاولة الفارغة:

هل السينما أجمل حين تكون جريئة على الجسد، أم حين تكون أجرأ على العقل؟

سؤال لا يُحسم بمقال… لكنه دائماً يبدأ من مقهى، ومن صديق، ومن فنجان قهوة لم يبرد بعد.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً