في سياق البناء القرآني للمجتمع القائم على الرشد والعدل وحسن التدبير، تأتي الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، لتؤسس مبدأً دقيقًا في إدارة المال، يجمع بين حفظ الحقوق ومنع الإفساد، وبين الرحمة والرعاية الإنسانية. فالآية لا تقف عند حد النهي عن تمكين غير الرشيد من المال، بل تمتد لتضع إطارًا أخلاقيًا واجتماعيًا للتعامل معه، بما يحقق مصلحة الفرد والجماعة معًا. وقد اتفق جمهور المفسرين على أن المراد بـ «السفهاء» هم من لا يُحسنون التصرف في المال لصغر سنّ، أو نقص عقل، أو سوء تدبير، سواء كانوا من اليتامى أو غيرهم، رجالًا أو نساءً، ما دام السفه وصفًا قائمًا يترتب عليه إضاعة المال وإفساده.
صيانة المال حتى يبلغ صاحبه درجة الرشد القادر على حسن التصرف
. ويُلاحظ أن التعبير القرآني جاء بلفظ «أموالكم» مع أن المخاطَب قد يكون وليًّا على مال غيره، للدلالة على أن المال في حقيقته قوام المجتمع كله، وأن إضاعته من أي فرد تُعد ضررًا عامًا لا يقتصر على صاحبه، وتبرز في الآية دلالة عميقة حين يصف الله المال بأنه «قيامًا»، أي ما تقوم به شؤون الحياة وتستقيم به مصالح الناس، فيكون حفظه وتنميته مقصدًا شرعيًا لا يقل أهمية عن إنفاقه في مواضعه الصحيحة. ومن هنا كان الحجر على السفيه إجراءً وقائيًا، لا عقوبة، هدفه صيانة المال حتى يبلغ صاحبه درجة الرشد القادر على حسن التصرف.
غير أن الخطاب القرآني لا يختزل العلاقة مع السفيه في المنع والحجر فقط، بل يوازن ذلك بالأمر بالإحسان إليه: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، أي اجعلوا نفقتهم وكسوتهم من أموالهم نفسها، دون تبديد أو تقتير، في صورة تكفل لهم حياة كريمة تحفظ إنسانيتهم . ثم يضيف البعد النفسي والاجتماعي بقوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، أي خاطبوهم بلطف واحترام، بعيدًا عن القسوة أو الإهانة، لأن الرشد المالي لا ينفصل عن التربية الأخلاقية وبناء الثقة . وعليه، تمثل هذه الآية مدخلًا تأسيسيًا لفهم التصور الإسلامي للمال بوصفه أمانة اجتماعية، تُدار وفق معايير الرشد والكفاءة، وتُصان من العبث، مع الحفاظ في الوقت نفسه على كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. فهي آية تجمع بين التشريع والخلق، وبين الاقتصاد والتربية، في نسق قرآني متكامل.
قران
الرؤية القرآنية الخاصة التي ترتقي بالمال من غاية إلى وسيلة
تُعدّ هذه الآية من الآيات المركزية في التشريع الإسلامي لما يتعلق بالمال وحفظه وتنظيم استخدامه في المجتمع، لما يلي:إنها الرؤية القرآنية التي ترتقي بالمال من مجرد عرض زائل أو وسيلة للمتاع، لتجعل منه عصب الحياة وقوام الوجود الإنساني في هذه الأرض؛ فالآية الكريمة حين تنهى عن إيتاء السفهاء حق التصرف في الأموال، إنما تضع حجر الأساس في بناء المجتمع الراشد الذي يعي قيمة الأمانة المستخلفة في أعناق البشر. إن المال في التصور الإسلامي ليس ملكية مطلقة للفرد يبددها كيفما شاء، بل هو 'قيام' جعل الله به صلاح أحوال الناس، واستقامة معاشهم، وإقامة صرح حضارتهم على أسس من القوة والمتانة.
صيانة المال من عبث العابثين وسفه الجاهلين
وعندما نتأمل في دلالات هذا النهي الرباني، نجد أن صيانة المال من عبث العابثين وسفه الجاهلين هي في حقيقتها صيانة لوظيفة المال الاجتماعية والاقتصادية، فمن لا يحسن تدبير أمره، أو يجهل موازين الإنفاق، إنما هو معول هدم يهدد مصالح الجماعة المسلمة في أخص خصائصها. وكما يشير الإمام السعدي في فيض تفسيره، فإن الخشية هنا تنبع من إفساد جوهر المال وإتلافه، فالذي لا يقدر على حماية الثروة أو استثمارها فيما ينفع الناس، إنما هو خائن لرسالة المال التي أرادها الله؛ لذا كان الحجر على السفيه رحمة به، وحفظاً لكيان المجتمع من التفكك والضياع، ليبقى المال وسيلة بناء لا أداة ترف ودمار.تنظيم الولاية المالية والرشد ميزان الأمانة ورشد الاستخلاف إن المنهج الرباني في تنظيم الولاية على المال لا يقف عند حدود القواعد المادية الجامدة بل ينفذ إلى جوهر الاستخلاف البشري فالآية الكريمة تضع دستورا دقيقا لحماية الضعفاء من الأيتام والمجانين والصغار ممن لم تكتمل مداركهم لخوض غمار الحياة وصراع الكسب إنها ولاية الرشد التي تجعل من الحجر على السفيه عملا من أعمال الصيانة لا الحرمان وبناء لا هدما فالمال في التصور الإسلامي هو أمانة الله في يد الجماعة والوصي على مال اليتيم أو السفيه لا يمارس سلطة تسلطية بل يؤدي واجبا اجتماعيا وشرعيا مقدسا لكي لا يتسرب قوام الحياة من بين يد من لا يحسنون التمسك به وكما ينجلي في تفسير القرطبي فإن قواعد الوصية والولاية هي في حقيقتها سياج يحمي الثروة من الضياع ويضمن بقاءها قوة فاعلة في جسد الأمة حتى يبلغ القاصر رشده ويصبح أهلا لحمل الأمانة ومباشرة مقتضيات الاستخلاف .
الرحمة الإلهية التي لا تنسى الجانب النفسي والوجداني للإنسان
تأكيد الرحمة والإنفاق المسؤول في سياق التكافل والرفق وفي ثنايا التشريع تبرز لمسات الرحمة الإلهية التي لا تنسى الجانب النفسي والوجداني للإنسان فالحفظ والمنع من التصرف للسفهاء لا يعني القسوة أو التهميش بل هو إنفاق مسؤول يغلفه الرفق إنها النظرة التي تنظر إلى الفرد الممنوع من التصرف كعضو في جسد الجماعة تجب رعايته وإطعامه وكسوته بالمعروف دون أن يلحقه مهانة أو ضياع إن الإسلام هنا يوازن بين مصلحة المال كقوام للمجتمع ومصلحة الإنسان كغاية للتكريم الإلهي فالإنفاق على هؤلاء من أموالهم التي تحت يد الأولياء يجب أن يكون بفيض من المودة وبمنطق الكفاية التي تحفظ الكرامة لتتحول العلاقة المالية من مجرد أرقام وحسابات إلى صلة تراحم وتكافل تصون المجتمع من الحقد وتحمي المال من التبديد وتجعل من التوجيه القرآني مدرسة في التربية النفسية والاجتماعية الشاملة
الإسلام لا يكتفي بمنع الإسراف أو التبديد فقط، بل يوازن ذلك بـ الرعاية الإنسانية: ارزقوهم فيها واكسوهم — أي استفيدوا من المال في إطعامهم وكسوهم ونفقة ضرورياتهم، مع الإحسان في التعامل معهم، وقولًا معروفًا. هذا يبرز البعد الأخلاقي في التشريع، فلا يكون المال محفوظًا فقط، بل يُنفق في وجوه تنمّي الكرامة الإنسانية. توجيه سلوك الأوصياء والمجتمع أدب الأمانة ورفق الكلمة إن التوجيه الرباني للأوصياء يتجاوز مجرد الحفظ المادي للمال ليرتقي إلى آفاق الرعاية النفسية والاجتماعية الشاملة فالآية تضع منهجا دقيقا في كيفية النفقة فليس المقصود إطلاق يد السفيه في المال ليعبث به بل إقامة شؤونه وتدبير حياته من ذات المال بحكمة بالغة ومسؤولية واعية تجعل مصلحة المستفيد فوق كل اعتبار وإن الروعة في هذا التشريع تتجلى في قوله قولا معروفا لتؤكد أن الحرمان من التصرف المالي لا يعني أبدا كسر الخاطر أو الإهانة بل يجب أن يغلف هذا المنع بكلمات طيبة تحفظ للمرء كرامته وتصون نفسه من الانكسار ليعلم الجميع أن الإسلام يبني الإنسان من الداخل والخارج في آن واحد
تدبير المال أساس للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ومن المنظور الاقتصادي الأوسع يبرز المال في هذه الآية لا كغاية تقصد لذاتها بل كوسيلة مقدسة لتحقيق الاستقرار العام وكفاية الاحتياجات البشرية إن منع تبديد الموارد هو في حقيقته حماية للمجتمع من هزات الفقر واضطرابات العوز التي قد تفتك بكيان الأمة إن هذا المبدأ التشريعي الذي يربط بين سورتي النساء والبقرة يرسخ رؤية شاملة تقوم على حماية المال من التبديد وتنظيم شؤون الولاية على أساس من الرشد والوعي مع دمج الرحمة الإنسانية بصرامة الإدارة الاقتصادية لتعزيز كرامة الفرد وضمان استقرار الأسرة والمجتمع على أسس من الأخلاق المتينة التي تجعل من الاقتصاد خادما للقيم ومن المال قواما للحياة المستقرة الكريمة