يمثل خروج مدير إدارة مصر في وزارة الخارجية الإسرائيلية للرد على المصريين في حملة غضبهم ضد ممثل معدوم الثقافة ظهر في حفلة مع ممثلين إسرائيليين سابقة جديدة في العلاقات بين الدول، فلأول مرة يخرج مسؤول رسمي من دولة ليرد على شعب دولة أخرى ويتطاول عليهم ويحاول إظهار عدم الاهتمام بما يبدو في حقيقته أنها صفعة كبيرة أعطاها المصريون لإسرائيل. لكن اللافت في المشهد هو أن حالة الرفض بدأت في السوشيال ميديا قبل أن تنتبه وسائل الإعلام وقبل أن تأخذ خطوة في اتجاه التعامل مع ما قام الممثل المذكور، أما المؤلم لإسرائيل في المشهد بأكمله هو أن حالة الرفض التي انتقلت من السوشيال ميديا لوسائل الإعلام أطلقها الشباب في الفئة العمرية بين 18 سنة و 30 سنة وهو ما سبب صدمة في أوساط الدولة العبرية التي فوجئت أن الرفض لها سوف يستمر حتى بين الأجيال التي لم تعيش حروبا معها، وبين شابات وشباب ظنت إسرائيل أنهم بالانغماس في مشاكلهم الشخصية أصبحوا غير مهتمين بالشأن العام.
كان من الممكن أن ينتهى الحدث بدون أن يخرج مدير إدارة مصر في وزارة الإسرائيلية للرد على الشعب المصري، ولكن لماذا اختارت إسرائيل أن تخاطب المصريين مباشرة عبر المسؤول الأول لديها المفترض أنه مسؤول عن العلاقات بين البلدين في سياقها الرسمي وليس الشعبي؟ لا يملك أحدا حتى الان إجابة حول هذا السؤال ، ولكن من المؤكد أن إسرائيل تشعر بأزمة وجودية عميقة تتزايد مع مرور السنوات، فقد وجدت إسرائيل في نهاية المطاف وبعد كل الحروب التي شنتها ضد العرب أنها سوف ينتهي بها الحال لا محالة لهزيمة بلا حرب، أول لنقل سوف تضطر للاعتراف بأن مصر انتصرت عليها بلا حرب، فبعد عقود من سلام بارد بين البلدين لا يزال المصريون متمسكون في مكان عميق في إطارهم الدلالي بأن إسرائيل كيان غريب وعدائي لهم، كانت المفاجأة أن شباب أعمارهم أقل من عشرين عاما استدعوا جريمة بحر البقر وهى جريمة حدثت منذ نصف قرن تقريبا، وقد يكون كل شهودها الأحياء قد انتقلوا لرحمة الله، ولكن شابات وشباب أعمارهم أقل من عشرين عاما أعادوها للأذهان مجددا .
حسنا، إن مشهد المسؤول الإسرائيلي الخائف والمتعلثم وهو يحاول التطاول على المصريين ويظهر شجاعة زائفة ويعترف بأن المصريين أصبحوا الأقوى تكشف عن خيبة أمل كبيرة في أوساط صانع القرار في تل أبيب من أن تؤدي هرولة شعوب أخرى تلبس الدشداشة والعقال للتطبيع مع الكيان الصهيوني لأن يسلم المصريون بالأمر الواقع.
لقد شعرت بالأسي شخصيا وأن أرى أطفالا في دولة خليجية أعطوهم الكبار أعلام إسرائيل ليلوحوا بها على أنغام أغنية عبرية، ولكن هذا المشهد أعادني أنا نفسي لذكرياتي الأولى في مدرسة دار السعادة الابتدائية المشتركة قبل 42 عاما وفي سنة 1977 م عندما كانت معلمة الموسيقى تنظمنا في الصف ضمن ساحة مدرسة فقيرة مجانية حكومية يرتادها أبناء الفقراء ويرتدون ملابس موحدة تسمي في ذلك الوقت " مريلة تيل نادية" وينادون المعلمات فيها بلقب شعبي شهير هو " أبلة" وليس " ميس " كما يفعل أطفال مدارس الدشداشة والعقال، كانت " أبلة كريمة" تدرب كل أطفال المدرسة بلا كلل ولا ملل على أغنية وحيدة نرددها في طابور الصباح ولا تكتفي بذلك بل تجمع كل صفوف أطفال المدرسة بانتظام وبالتناوب ليغنوا على أنغام أكسلفون رخيص الثمن أغنية تقول كلماتها :
رايحين رايحين
شايلين فى ايدنا السلاح
راجعين راجعين
رافعين رايات النصر
سالمين سالمين
حالفين بعهد الله
نادرين نادرين
واهبين حياتنا لمصر
باسمك يا بلدي......حلفنا يا بلدى
جيشك وشعبك يرد التحدى
ارضك وزرعك.....شمسك وقمرك
شعرك ونغمك.....نيلك وهرمك
بدمي افادي واصد الاعادى
وافدى بروحى عيونك يا مصر
رايحين رايحين شايلين فى ايدنا سلاح
راجعين راجعين
رافعين رايات النصر
سالمين سالمين
حالفين بعهد الله
نادرين نادرين
واهبين حياتنا لمصر
ما فعلته " أبلة كريمة " في مدرسة دار السعادة فلعته أيضا كل " أبلة كريمة "أخرى ، وكن بالالاف أو عشرات الالاف في طول مصر وعرضها مع أطفال المدارس المجانية الفقيرة، كنا أطفال لا نفهم معانيها لكننا كنا نغنيها بكل حماس وبراءة الأطفال الذين يريدون ضمان رضا معلمة الموسيقي حتي لا تعاقبهم بحرمانهم من حصة الموسيقى وتحويلها لفترة تنظيف لحوش المدرسة، كنا في نهاية المطاف نغني ونفرح بكلمات لا نفهم معانيها في هذا السن المبكرة لكن كنا فرحين بحصة الموسيقي الخفيفة بدلا من حصص الحساب والعربي وتسميع جدول الضرب، والضرب الحقيقي الذي كنا نناله في حصة الدين لأننا لم نحفظ السورة المقررة علينا، لكن عندما كبرنا ظلت كلمات الأغنية في إطارنا الدلالي، لم ننسى الكلمات، بل فهمنا معانيها، واستقرت في نفوسنا وبنت داخل كل رجل وامرأة منا ما يمكن أن نصفها بأنه حصين حصين ضد ثقافة التطبيع مع إسرائيل، وعندما استطاع بعض منا أن يخرج من مجتمع مدارس الحكومة المجانية لدائرة مدار الطبقة المتوسطة منخفضة التكاليف ينادي فيها الاطفال للمعلمة بقلب " ميس" وليس " أبلة" لم يخطر بباله أبدا أن يسمح لطفله بأن يحمل علم إسرائيل ويلوح به كما فعل أطفال الدشداشة والعقال . ولكن هذا الشعور بالأسى لم يمنع من أن اشعر بالفخر بمدرستي المجانية الفقيرة في القاهرة التي كانت دوما عاصية على كل محتل