أحمد يوسف علي يكتب: يهود الإسكندرية

الدكتور أحمد يوسف علي
الدكتور أحمد يوسف علي

قضيت عدة أيام في قراءة السفر الروائي الكبير 'يهود الإسكندرية' للروائي مصطفى نصر المولود 1947م بمدينة الإسكندرية، وعجبت كل العجب من أمرين الأول أن هذا السفر من العلامات الكبرى في تاريخ كتابة الرواية العربية، والثاني أن عين النقاد عميت عنه فلم تبصره حق الإبصار، ولم تنزله حيث ينبغي له من المكانة، وهذا موطن المفارقة المؤلمة.

وفتشت في مصادر المعرفة عن مصطفى نصر وعن رواياته وكتاباته، فوجدت كاتبا يعيش في مقام الوجد والفناء مع عالمه الروائي وكأنه في حال من العزوف عن الناس، وعن معاهد النقد والثقافة والفكر. يعرفه النقاد والباحثون في مدينته، ويعرفه نفر من أهل العاصمة، وتنظر إليه على استحياء عيون الجوائز ويصيبها الهوى والحول فتخطئه. وما ذلك لعيب فيه ولا في كتابته، ولكن لأنه من أهل السواد الذين يعيشون على أطراف الهوامش. فأهل السواد هؤلاء تعبير خفي عن المركز والهامش، وعن الظلال والأضواء، وعن خلل رهيب في ميزان عدالة النظر النقدي.

وهذا التعبير تعبير تاريخي يعبر الزمن ولا يتغير معيار النظر النقدي. فقديما كان النظر النقدي يميل إلى الشاعر البدوي في مقابل الشاعر المولد أو المحدث، كما يميل إلى القدم والحداثة. فالأصالة هي القدم المطلق، والرداءة والتهافت هي الحداثة المطلقة. ولذلك مكث شعراء الحداثة من أبناء المولدين ردحا طويلا من الزمن في العصر العباسي الأول غير مرضي عنهم، ولم يشفع لهم أنهم أبناء الحضارة الجديدة، وأن جودة القول الأدبي ليست رهنا بزمن دون زمن، ولا بمكان دون مكان.

ومع ذلك فإن الرباط السري بينهم وبين البلاط العباسي كان شفيعهم الذي فرض وجودهم، وفرض أصواتهم الشعرية على منصات التلقي النقدي. فشاعر العاصمة دوما أقرب، وأجهر صوتا، وإن لم يكن على حظ كبير من الجمال الأدبي والفكري.

ويبدو أن هذه الثنائيات لم تتغير تغيرا لافتا، وظل النظر النقدي لايرى الجودة إلا في الشهرة، وفي النفوذ، وفي اقتسام الأنفال. ومصطفى نصر لم يكن أول كاتب صهرته الكتابة وعاش بعيدا عن نعيم العاصمة.

يهود الإسكندريةيهود الإسكندرية

وحقق هويته اللغوية والروائية والفكرية وواجه عزوف النقاد وكتاب الصحف بمزيد من التفاني من أجل إنتاج فريد ومتميز. ولن يكون آخر هؤلاء الذين تضرب عنهم عدالة النقد صفحا.

ومن سخريات الحال الثقافي أن مكتبة الإسكندرية تذكرت أن الإسكندرية منذ نشأنها مدينة تاريخية كونية وأن مكتبتها هي تعبير عن هذا التعدد العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري على أرض المحروسة، وأن الإسكندرية شغلت المفكرين والشعراء والكتاب والعلماء، وتجلت في أعمالهم الباقية، ومنها رباعية الكاتب الإنجليزي لورانس داريل ' رباعية الإسكندرية'، حين تذكرت المكتبة كل ذلك، نهضت للاحتفال بحضور هذه المدينة التاريخي، فلم تدع كتابها ودعت كتابا من القاهرة مثل إبراهيم عبد المجيد، ولم تلتفت إلى مصطفى نصر.

ومع البعد عن الأضواء، والعيش في الظلال، فإن وعي مصطفى نصر بتاريخ الإسكندرية كان وعيا فريدا مكنه من كتابة تاريخها الأنثروبولوجي الذي صورته رواياته. فقد كان واعيا بكونية المدينة التي شكلت أحياءها، وشكلت وعي الناس بالجمال والقبح والفن والفكر واللغة. ولم يكن مصطفى إلا ذاكرة حافظة لكل ذلك يستعيده على نحو مغاير في كتابة الرواية التي صارت تاريخه الأدبي والفكري والجمالي ابتداء من النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين:

الصعود فوق جدار أملس 1977.جبل ناعسة 1981م.الشركاء 1982م.الجهيني 1983م .الهماميل 1988م .شارع ألبير1994م .النجعاوية 1996م .إسكندرية67. 1998م.سوق عقداية1999م. ليالي الإسكندرية 2000 م. ظمأ الليالي 2000م. ليالي غربال2002م.المساليب 2003م. سينما الدورادو 2006م. يهود الإسكندرية 2016م. ما لم يقله البحر 2018زمدفء المرايا 2019مالستات 2021م.

وإذا كان للمكان في العالم الروائي للكاتب هذا الحضور، فإن السؤال عن خصوصية هذا المكان أمر بديهي. لماذا الإسكندرية؟ ولماذا اليهود فيها؟ فالمدن الكبرى في مصر ذات عراقة تاريخية وثقافية واجتماعية، وللجماعات التي تسكنها طوابعها العقدية والأنثروبولوجية، واليهود لم يسكنوا الإسكندرية وحدها وعاشوا في مدن تاريخية كثيرة في مصر في الدلتا والصعيد، فما تفسير اختيار مصطفى نصر يهود الإسكندرية؟ لا أعتقد أن هذا التفسير يختص اليهود وحدهم لأن نشأة المدينة قبل الميلاد بما يزيد عن ثلاثة قرون 331ق.م، أتاح للإسكندر الأكبر أن يرسخ مبدأ تعدد الأعراق من السكان الأصليين وهم المصريون، واليونانيون، والجنود، واليهود الذين كانوا بعض المصريين.

ولما كانت الحروب التي خاضها قد أكدت لديه أن وقودها الأساس هو اعتبار المختلف عدوا، فإن أساس المدينة الجديدة هو قبول المختلف وإرساء مبدأ التعايش معه. وقد نمت مدينة الإسكندرية وارتقت عبر تاريخها في مدارج العمران ولم تفقد هذا المبدأ بل اتسع وتعددت أعراق قاطنيها، وتعددت أديانها، ولغاتها، وثقافاتها، ونشأ من هذا التعدد العجيب الوجه الثقافي الفريد للإسكندرية بوجه عام، والرواية تحكي تاريخ اليهود من منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية عصر السادات وتفاعلاتهم مع التطور الاجتماعي والسياسي.

WhatsApp
Telegram