ads

محمد مختار يكتب عن ذكرى يوم على مقهى أتنيوس ... مشروع البرادعي المقدس : "نفسه ثم نفسه ثم نفسه"

محمد مختار
محمد مختار

في غمرة عودتي من فترة عملٍ مضنية في صحيفة خليجية مرموقة، حيث تركتُ خلفي صخب الحياة المهنية ورتابة الأيام، لم يكن في ذهني سوى وجهةٍ واحدة تلوح في الأفق: الإسكندرية المدينة الأنثى. تلك المدينة التي طالما أسرتني بعبق تاريخها وشواطئها الهادئة. كانت زيارةً مُرتبةً بعناية مع الصديق الراحل ماجد محمد، مدير مكتب جريدة الوفد بالإسكندرية آنذاك. لكن قبل أن يشدنا تيار اللقاءات الرسمية والحديث عن هموم المهنة، اخترتُ أن أستهل يومي بجرعةٍ من الهدوء والتأمل، في مكانٍ لطالما كان شاهدًا على أحاديث المثقفين وهمسات السياسيين: مقهى أتينيوس العريق بمحطة الرمل.

كان الموعد مع المهندسة رحاب السمنودي. اسمٌ لمع نجمه لتوّه في سماء السياسة المصرية، بعد أن أظهرت شجاعةً نادرة في تحدي سلطة نظام مبارك. فلقد فتحت بيتها في الزقازيق، بقلب تغلب عليه المشاعر الوطنية التي لا تعرف الخوف، لاستقبال رموز وأعضاء الجمعية الوطنية للتغيير في اجتماعٍ كان من المفترض أن يناقش ملامح مستقبلٍ جديد لمصر. ورغم أن الدكتور محمد البرادعي، قاطرة هذا الحراك، لم يحضر ذلك اللقاء تحديدًا، إلا أن الأجواء كانت مشحونة بترقبٍ غير مسبوق. فمصر في تلك الفترة كانت على موعدٍ غير مُرتب مع التغيير، مع رياحٍ بدأت تلوح في الأفق وتنذر بكسر الجمود.

كان الحديث مع المهندسة رحاب في أتينيوس مزيجًا من الشجون والأمل. تبادلنا أطراف الحديث عن نبض الشارع المصري، عن الطموحات المكبوتة، وعن شجاعة الأفراد الذين تجرأوا على كسر حاجز الصمت. استمعتُ إليها في لقاء اختلط فيها الشخصي بالعام وسألتها كيف أقدمت على خطوتها الجريئة في ظل مناخٍ سياسي خانق، وكيف بات بيتها ملاذًا للأصوات الباحثة عن بصيص أمل. كانت الإجابة في صوتها ظهرت من خلال إيمانٌ عميق بقضية التغيير، وبقدرة الشعب على صياغة مستقبله.

لكن، وبينما كنا نغوص في ثنايا الحديث عن الجمعية الوطنية للتغيير وأهدافها، كان لا بد أن تحضر شخصية البرادعي. فلقد كان اسمًا بارزًا في تلك الفترة، يُشار إليه على أنه المنقذ والمحفز. غير أن مجريات الأحداث التي تلت ذلك، وكل ما شهدته مصر من تحولات جذرية، كشفت عن حقيقةٍ مُرة صدمتنا كلنا بعد ذلك لقد أظهر البرادعي، من خلال سلوكه في كل ما جرى على نيل مصر، أن مشروعه كان في جوهره لا يتعدى كونه "نفسه ثم نفسه ثم نفسه". كانت الأضواء هي مبتغاه، والشهرة هي غايته القصوى، حتى على حساب الرفاق والأهداف النبيلة التي ادعى تبنيها.

فحتى زملاؤه في الجمعية الوطنية للتغيير، أولئك الذين آمنوا بمشروعه ووقفوا خلفه، لم يكن ينظر إليهم في أعماق نفسه إلا بمنظورٍ أضرّ به هو نفسه قبل أن يمسهم بسوء. لقد كان يراهم مجرد أدوات، درجات على سلم صعوده الشخصي، وليسوا شركاء حقيقيين في قضية وطنية كبرى. وهذا ما أظهرته الأيام والشهور اللاحقة بوضوحٍ لا يقبل الشك.

وهكذا، في ذلك الصباح الإسكندراني الهادئ بمقهى أتينيوس، بين عبق القهوة وسكون المكان، تجلت أمامي صورةٌ مركبة لمصر في تلك الفترة. صورةٌ تحمل في طياتها الأمل في التغيير، وبعد لقاء مهى أتنيوس انطلقت لمكتب صحيفة الوفد ليكون الأستاذ الكبير الراحل ماجد محمد مدير مكتب الجريدة العريقة في انتظار لنتحرك مجددا نحو مطعم للسمك ثم مقهى من مقاهي الأسكندرية لنستكمل الأمسية ونحن نرشف مع أكواب الشاى ونفثات النرجيلة ن مرارة واقعٍ مرير، حيث قد تتلبس الأطماع الشخصية ثوب النضال الوطني، وحيث يصبح الأنا هو المحرك الأساسي لبعض قادة الحراك. والإسكندرية، كعادتها، تبقى شاهدةً على كل هذه التحولات، بصمتها وعمقها الذي لا ينضب.

WhatsApp
Telegram