مذكرات صحفي تحت التمرين ( 6 ) وائل توفيق الصحفي التروتسكي الحالم

وائل توفيق
وائل توفيق

بين يناير 2011 ويوليو 2013 عشنا وعاش جيلي أجمل حلم، وكنا للأسف متأكدين كل التأكد أننا سـنصحو من هذا الحلم على كابوس كبير. كانت مصر في الميادين، ولأول مرة نرى أنفسنا قادرين على إسقاط النظام الذي جثم على صدور مصر ثلث قرن، وجرف كل ما هو جميل فيها. ولأول مرة أيضًا نرى أنفسنا مدفوعين بحب الوطن والأمل في المستقبل، لنقف في طوابير طويلة تحت المطر حتى ندلي بأصواتنا في انتخابات رئاسية، سهرنا وسهر العالم معها كما يسهر العالم مع الانتخابات الأمريكية. وعندما أُعلنت النتائج، اختلفنا حولها، لكن التجربة كانت مبشرة. في هذه الظروف، رفضنا عروضًا مغرية بالسفر للعمل في الخارج. أنا نفسي، في هذه الفترة، رفضت عرضًا للعمل خارج مصر في مؤسسة كانت تعرض راتبًا لا يقاوم في الظروف العادية.وتمسكنا وتمسك غيرنا بالوطن الذي عاد إلينا، ولكن مع الأسف، جرت الأمور على نحوٍ لا تشتهيه السفن، وحدث ما كنا نتوقعه، فصحونا على كابوس. وبعدها، عدت للسفر، ولكن في سفرات قصيرة لأسباب معقدة. سافرت لأول مرة إلى المغرب، وتمنيت لو قضيت بقية حياتي في كازابلانكا، لكن قوة غامضة كانت تعيدني في كل مرة إلى القاهرة.

قد تكون هذه الفترة القصيرة هي أكثر الفترات التي ركبت فيها طائرات قطعت آلاف الكيلومترات وهبطت أو أقلعت في وعبر عشرات المطارات. سفرات كأني في مهمة غير مقدسة لأدور حول نفسي التي كنت أشعر أنها نفس أخرى منفصلة عني، أو جسد يتحرك بلا روح. أسافر وأعود ثم أسافر وأعود ثم أسافر وأعود، بلا هدف ولا حتى قدرة على اتخاذ قرار بأن أتوقف عن هذه الدائرة العبثية التي التهمت من عمري أجمل سنوات العمر.

ما بين السفر والعودة، كان من الطبيعي أن أمر بفترات بطالة ترافقها بطبيعة الحال صعوبات مالية تنعكس مباشرة على الحياة العائلية وعلاقتي بالأُسرة. وفي وقت الأزمات، كان يظهر لي التروتسكي الحالم، وائل توفيق، وهو الملاك الحارس الذي يظهر فقط لي ولآخرين عندما يضيق بهم الحال، وعندما تتيسر الأمور يختفي، وكأنه ينتمي إلى عمال النور الذين يجوبون الأرض بحثًا عن المضطهدين والضعفاء المظلومين ليساندوهم في مظلوميتهم، ثم يختفون فور أن يقوموا بدورهم.

كنت قد تركت عملي في صحيفة "نهضة مصر" كرئيس لقسم الأخبار بسبب عدم وجود أي رواتب. وكان صاحب الصحيفة، عماد الدين أديب، على الرغم من ثرائه الشخصي المعروف، عاجزًا ليس فقط عن دفع رواتب العاملين في صحفه ومجلاته، بل لم يكن هناك موعد محدد لاستلام أي جزء من المرتب. وبعد أن نفد صبرنا، ذهبنا لمقابلة جمال عنايت، الذي كان المساعد الأول لعماد الدين أديب في ذلك الوقت. وتحدثنا معه بصراحة عن عجز بعضنا حتى عن شراء طعام لأسرته بسبب عدم انتظام المرتبات أو عدم وجود مرتبات من الأساس منذ شهور. وبابتسامته المعهودة وكياسته التي لا يختلف عليها اثنان، أمر جمال عنايت فورًا بصرف جزء من رواتبنا المتراكمة. وفي اليوم التالي، علمنا بفصلنا جميعًا من وظائفنا بقرار لا يملك إصدار سوى جمال عنايت نفسه، لأن عمرو أديب كان مشغولا في ذلك الوقت بحياته الشخصية !

في هذه الظروف الحالكة، عرفت وائل توفيق الذي لم يتأخر في تدبير فرصة عمل لي فورًا في موقع حقوقي ناجح في ذلك الوقت بنفس الراتب الذي كنت أحصل عليه في مؤسسة المليادرير عماد الدين أديب الضخمة. وعلى الرغم من بساطة الموقع، إلا أن مديره المسؤول لم يكن يؤخر الراتب أبدًا عن العاملين معه، لدرجة أنني ظننت أن مسألة تأخير الرواتب عن الموظفين هي مسألة لا علاقة لها باليسر أو العسر المالي، لكن في كل الأحوال، توطدت علاقتي بوائل توفيق في هذه الفترة القصيرة.

وكأن الرجل رجلان؛ رجل يكافح من أجل استعادة نفسه بعد تجربة مؤلمة في حياته الشخصية ، والوجه الآخر لوائل توفيق هو وجه المناضل العمالي الذي أسس منظمة قانونية غير هادفة للربح للدفاع عن حقوق العمال، لكن قد يكون هذا الزمن ليس زمن وائل ومن على شاكلته من "عمال النور"، ولم يكتفي وائل توفيق بتأسيس منظمة للدفاع عن حقوق العمال بل ذهب لأبعد من ذلك وأسس أول نقابة مستقلة للصحفيين تحاول أن تخلق غطاء شرعي للشباب الذي يعمل في الصحافة وترفض نقابة الصحفيين ضمهم لسجلاتها لأسباب تتعلق بتضارب المصالح بين أصحاب هذه الصحف وبين النقابة نفسها، ولكن كل الجهد الذي بذله وائل توفيق في التأسيس للمنظمتين، المنظمة القانونية ونقابة الصحفيين المستقلة، فمع فقد تعرض الرجل لخيانة أقرب الناس إليه ممن وثق بهم وهم غير أهل للثقة. وانفضت المنظمتين على كوارث قانونية ومالية تحملها هو وحده.

كنت أحيانًا أقسو على وائل في وصفه هو وتياره بالحالمين، وأحيانًا كنت أستخدم مفردة "الواهمين". كنت وما زلت أرى أن الطبقة العاملة، التي نذر لها وائل توفيق نفسه ورفاقه، ليست طبقة في مصر على الأقل، فالعامل في مصر قد يكون عاملًا في الصباح ويعمل في مصنع وبعد الظهر يملك تاكسيًا أو يملك محلًا تجاريًا، ولا يوجد أي مانع في معظم الحالات في أن يلحق العامل أبنائه بالتعليم ويتخرجوا كأطباء ومحامين ومهندسين وصحفيين. وقد كان جيلنا من الجيل الذي كان من الوارد فيه أن يصبح ابن العامل ضابطًا أو وكيل نيابة ويترقي لسلك القضاء، وحتى وإن أصبح ذلك غير متاح عمليًا في الوقت الحالي، فذلك لم يكن يمنع من الحراك الاجتماعي في المجتمع العمالي، وكثير منا لهم أصدقاء تنتمي عائلاتهم إلى العمال وتزوجوا نساءً أو صاهروا عائلات من طبقات التجار أو غيرهم من أصحاب رؤوس الأموال. ولكن مع ابتسامة وائل توفيق لي التي يعبر فيها عن شفقته على ضحالة ثقافتي السياسية من وجهة نظر، كنت اكتفي بالاستمرار في لعب الطاولة معه وهو يدخن النرجيلة بطريقته النهمة في التدخين، وأحاول أن أسرقه في لعب الطاولة حتى يدفع هو الحساب الذي لم أكن أملك دفعه في أوقات بطالتي عن العمل. ولم يكن هو يمانع لا في أن أسرقه في اللعب أو أن يدفع حساب مشروبات المقهى وثمن علبة الكشري لي في كل الأحوال.

WhatsApp
Telegram