الحقيقة التى لا بد أن نجليها تجلية تزيل عنها كل شك، وتعصمها من كل لبس وتبرئها من كل ريب، هــى أن حرب الإبادة الجماعية و التطهير العرقى و التجويع التى تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى المسلوب أرضه و شرعية دولته، و الشعب اللبنانى المسلوب عروبته سيكون لها آثار وتداعيات على المدى المنظور و المدى البعيد ليس فقط على أرض فلسطين المحتلة بل ستمتد إلى الإقليم و العالم، فالمشروع التوسعى الصهيونى ليس إسرائيلياً فقط، بل مشروع غربى قديم يتجدد، فتحرك الأساطيل الغربية إلى المنطقة و حرص قادة الدول الغربية الكبرى على حضور اجتماعات حكومة الحرب فى تل أبيب، و الدعم السياسي والعسكرى والمادى الذى سيعوض إسرائيل عن أى خسائر اقتصادية ناجمة عن طول زمن الحرب، عكس ما اعتمدت عليه نظرية الأمن الإسرائيلي لعقود والتى اعتمدت على الحروب الخاطفة القصيرة خارج الحدود على أرض العرب.
وبالنظر إلى مفهوم الأمن القومى الذى عُرف منذ عام 1947، مع إنشاء مجلس الأمن القومى الأمريكي، و ارتبط المفهوم بالإمكانيات العسكرية و مصادر التهديد، و للأمن القومى عدة تعريفات منها ( قدرة الدولة للحفاظ على بقائها و الإعلاء من جودة الحياة لمواطنيها )، و الأمن القومى الإقليمي يرتبط بأمن مجموعة من الدول تتفق فيما بينها على أن أمن كلاً منهما مرتبط بالأخرى، و كانت أول محاولات الأمن القومى العربى فى عام 1950، حين وقع العرب على معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الاقتصادى داخل إطار جامعة الدول العربية، و كانت إسرائيل هى مصدر التهديد الأول للعرب و الذى تم رسم السياسات الأمنية بناء على تحديد مصدر التهديد، ولكن ومع تطور الأحداث و توالى معاهدات السلام العربية الإسرائيلية و بإيعاز من واشنطن تم تحويل نظر العرب إلى إيران كونها هى التهديد الحقيقي الأقرب للعرب، تلك الرؤية التى تواجدت لسببها القوات الأمريكية فى المنطقة لردع إيران فى الظاهر، و دعم إسرائيل فى الظاهر و الباطن.
وبالعودة إلى القمة العربية الإسلامية التى انعقدت فى الرياض، و بالأحرى إلى البيان الختامى و الذى حذر من الانتهاكات الإسرائيلية التى لا تحترم القانون الدولى أو القانون الدولى الإنساني، و التأكيد على أنها تعرض السلم و الأمن الإقليمي و الدولى للخطر، و السعى إلى تجميد عضوية إسرائيل فى الأمم المتحدة، و إن كان هذا الهدف مستحيل المنال فى ظل نظام دولى يسيطر الغرب فيه على كل تفاصيله، إلا إنه دلالة على إستعادة العرب الرؤية المفقودة أو على الأقل جزء منها و التى تعيد إسرائيل على قمة قائمة التهديدات الحقيقية المتربصة بالأمن القومى العربى، ليس فقط لتواجد إيران ممثلة لدولة إسلامية داخل المؤتمر، بل لظهور الوجه الحقيقى للصهيونية التى ترى أن الأرض التى تم احتلالها فى 1948 هى أرض محررة لا أرض محتلة، و أن مشروع الصهيونية الإستيطاني يتعثر و لا يتوقف.
مما سبق نجد أن المنطقة العربية على موعد مع تغيرات جذرية تمس أمنها القومى و تهدد بقاؤها فى ظل مؤسسات دولية تفتقر إلى الحد الأدنى من العدالة و الإنصاف، ويعكس ذلك حديث الأمين العام للأمم المتحدة أنها أصبحت جليسة أطفال وقت الحروب، وفى ظل تغيير فى النظام الدولى الذى تتصدره الولايات المتحدة كقطب أوحد، و يظل التواجد الصينى الروسي فى المنطقة مجرد زيادة فى خيارات سياسية متواضعة التأثير مقارنة بالنظام الغربى الذى يسيطر على هيكل و فلسفة و أدوات النظام الدولى.
بالإضافة إلى ما سبق مع التأكيد على وجود أطماع و تهديدات إقليمية أخرى منها الإيرانى و التركى و الأثيوبى، و أن معاهدة السلام المصرية هى خيار استراتيجي للدولة المصرية للحفاظ على مقدرات الشعب، فإن التفكير فى بناء منظومة الأمن العربى أصبح ضرورة حتمية يمكن كتابتها بداية من "مسافة السكة" و "خط أحمر" .