لا يمكن لأحد على وجه هذه الأرض أن ينكر أن مصر تمتلك أعظم هوية وطنية، هوية ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ الإنسانى، هوية كانت طوق نجاة للدولة المصرية فى أحلك ظروفها، وخلال الفترات السابقة لم تكن هويتنا مستهدفة، بل تعايش معها المحتل دون تحرش أو محاولة لطمسها، و إن كان هناك محاولات لم ترقى إلى تبديل أى من ملامحها، عكس هذه الأيام حيث نجد هويتنا فى مرمى نيران العدو، عدو ليس كالعدو الذى تحدث عنه الدكتور جمال حمدان فى موسوعته الخالدة "شخصية مصر"، حين ذكر أن مصر دائماً و أبداً هناك عدو بعينه يتربص بها و يحلم و يعمل على سحقها، فالعدو اليوم أصبح معلوم الأهداف مجهول المصدر، فالعدو اليوم لم يعد العدو القريب جغرافياً فحسب، بل أصبح تحالف لأعداء اتفقوا على الهدف واختلفوا فى الوسيلة.
استهداف هوية الدول هو نتاج لتطور الحروب على مر العصور، فالحروب فى جيلها الأول اعتمدت على القوة البدنية للجندى، و فى جيلها الثانى اعتمدت على المدفعية والضرب خلف الخطوط الأمامية، و فى جيلها الثالث زادت قوة النيران وزاد معها القدرة على المناورة و اللامركزية فى القيادة، حيث أصبحت حروب المهام، وانتقلت فى جيلها الرابع و ما بعده إلى ضرب القطاع المدنى واستهداف الشعوب من الداخل، فيما يعرف فى أدابيات العلوم السياسية بالحروب اللامتماثلة التى لا يمكن لأحد معرفة وجهتها أو أهدافها، ولا مثال أوضح لهذه الحروب من الحرب السورية التى أحدثت دمار أضعاف دمار حروبها السابقة بأيدى أبناؤها دون تدخل دبابة عدو واحدة، بل اعتمدت على إقتلاع هوية الشعب السورى والرقص على الاختلاف العقائدى والاجتماعى، اختلاف أكبر من عمرالدول العظمى التى تتصدر المشهد الدولى التدميرى.
وبالعودة إلى أجيال الحروب سنجد أنها ارتبط فى تطورها بشكل النظام الدولى السائد، حيث نجد أن الأجيال الأولى ساد العالم نظام دولى متعدد الأقطاب، و بعد الحرب العالمية الثانية بدأ تشكل نظام دولى جديد، ظهرت ملامحه بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، حيث حل نظام القطبين محل النظام متعدد الاقطاب، و بعد عقود من الحرب الباردة التى انتصرت فيها الولايات المتحدة وأيديولوجيتها الليبرالية، روج العلماء إلى أن انتصار الحضارة الغربية هو نهاية الصراع الحضارى وعبر عن ذلك "فوكوياما " فى كتابه نهاية التاريخ، والذى مهد لنظام أحادى القطبية يتسيد العالم، وأن العولمة هى الأيديولوجية المناسبة للجميع، بل إنها حتمية للدول كافة ومن يتخلف عنها من الدول لن يتأخر فقط عن قطار المستقبل، بل سيكون عرضه للانقراض.
و بالنظر إلى العولمة نجد أنها اعتمدت على تبديل المفاهيم و المسلمات الموروثة مثل الإنتماء، والولاء، والسيادة الوطنية، بمفاهيم الديمقراطية و حقوق الإنسان وسيادة القانون والحرية، مفاهيم جديدة استهدفت إذابة الحدود وإضعاف سيطرة الحكومات على مواطنيها وأراضيها، مفاهيم اعتمدت على استبدال هوية الشعوب بهوية غربية مستوردة تجعل الولاء و الانتماء للغرب و مصالحه.
بناء على ما تقدم وبعد مشاهد الدمار التى تكسو خريطة المنطقة العربية، يتأكد لنا بما لا يدع مجال للشك أن مصر مستهدفة فى هويتها الوطنية، لإدراك أعداؤنا بأن الهوية هى درع الوطن الذى تتحطم عليه أحلامهم و مطامعهم القديمة المتجددة.