كانت الصحف والصحافة هى أدوات الثورة لسعد زغلول، لذلك سعت السلطات البريطانية خلال ثورة 1919 إلى خنق الحراك الوطني من خلال فرض رقابة مشددة على الصحافة، والتي منعت نشر أي أخبار تتعلق بمساعي سعد زغلول وزملائه، أو مطالب الشعب. وقد أدت هذه الرقابة إلى تقييد حرية التعبير والإعلام، إلا أنها لم تستطع منع الصحافة من نشر بعض الأفكار والمبادئ التي تدعم القضية الوطنية، مما يؤكد قدرة الصحافة على المقاومة والتأثير، حتى في ظل الظروف الصعبة. وشهدت ثورة 1919 تحولًا نوعيًا في المشهد الصحفي المصري، حيث أدى التضامن بين الصحفيين إلى تأسيس أول نقابة صحفية لحمايتهم. ورغم تشديد الرقابة في البداية، إلا أن السلطات البريطانية اضطرت للتخفيف منها لمراقبة الرأي العام. ومع ذلك، انقسمت الصحافة بين مؤيد ومعارض للمفاوضات مع الاحتلال، مما يعكس تعقد المشهد السياسي. والأمر الأكثر إثارة هو نجاح الوفد في استمالة بعض الصحف التي كانت موالية للاحتلال، في حين فشلت السلطات البريطانية في الحفاظ على ولاء جميع الصحف.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. الصحافة المصرية عندما صدرت بكل اللغات ولكل الطوائف وتفوقت على صحف أوروبا
وفي الوقت نفسه، أدت ثورة 1919 إلى توحيد صفوف الصحفيين المصريين، مما دفعهم إلى تأسيس أول نقابة للصحفيين في أبريل من نفس العام. هدفت هذه النقابة إلى حماية الصحفيين من الانتهاكات التي تعرضوا لها على يد سلطات الاحتلال. ورغم أن السلطات البريطانية خففت من قبضتها على الصحافة، إلا أن ذلك لم يكن بدافع من إيمانها بحرية الصحافة، بل كان بهدف مراقبة الرأي العام عن قرب. وقد أدى هذا التغيير إلى انقسام الصحف إلى ثلاث تيارات: مؤيد، ومعارض، ومؤيد ثم تحول إلى معارضة للمفاوضات مع الاحتلال. واللافت للنظر أن الوفد المصري استطاع استمالة بعض الصحف الموالية للاحتلال، في حين فشلت السلطات البريطانية في ذلك. لقد كانت الصحافة المصرية في قلب الأحداث خلال ثورة 1919، حيث لعبت دورًا محوريًا في تعبئة الرأي العام ونشر الوعي الوطني. وقد أدى هذا الدور إلى توحيد الصحفيين وتأسيس نقابة لحمايتهم. ورغم التضييق الذي تعرضت له الصحافة، إلا أنها استطاعت أن تنقل صورة حقيقية عن الأحداث، مما ساهم في تعزيز موقف الوفد المصري. شهدت الصحافة المصرية خلال ثورة 1919 ارتباطًا وثيقًا بالحراك السياسي في مصر، حيث استخدمتها الأحزاب والقوى السياسية كأداة لنشر أفكارها وجذب الأتباع. وقد سيطرت الأحزاب الوطنية الكبرى على عدد من الصحف التي لعبت دورًا بارزًا في التعبير عن طموحات الشعب المصري. ومع ذلك، تعرضت هذه الصحف لحملة قمع شرسة من قبل السلطات البريطانية التي سعت إلى إسكات صوت المعارضة، بينما حظيت الصحف المؤيدة للسياسة البريطانية بحماية خاصة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. الصحافة المصرية عندما صدرت بكل اللغات ولكل الطوائف وتفوقت على صحف أوروبا
وفي الوقت نفسه، استخدم الاحتلال البريطاني الصحافة كأداة لنشر الدعاية وتبرير وجوده في مصر. وقد نجح في استمالة بعض الصحف التي تبنت روايته عن تطوير مصر وحماية مصالحها. ومع ذلك، فشلت هذه الدعاية في مواجهة المد الوطني المتصاعد، حيث لعبت الصحافة المعارضة دورًا حاسمًا في فضح زيف ادعاءات الاحتلال.
وخلال ثورة 1919، أصبحت الصحافة ساحة صراعٍ بين القوى السياسية المتنافسة وبين السلطات البريطانية. وقد حرصت الأحزاب الوطنية على توفير منابر إعلامية تعبر عن آرائها، مثل الصحف التي سيطرت عليها القوتان الكبيرتان، الوفد والحزب الوطني. ومع ذلك، فإن الرقابة البريطانية الشديدة حالت دون حرية الصحافة، حيث تعرضت الصحف المعارضة لحملات قمعٍ وحذف، بينما تمتعت الصحف المؤيدة للاحتلال بحماية خاصة، مما كشف عن مدى تأثير الرقابة على المشهد الإعلامي في ذلك الوقت.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. الصحافة المصرية عندما صدرت بكل اللغات ولكل الطوائف وتفوقت على صحف أوروبا
وخلال أحداث الثورة، وفي تناقض صارخ مع الواقع، وصفت صحيفة 'المقطم' أحداث ثورة 1919 بأنها أعمال شغب وتخريب، وحملت المتظاهرين مسؤولية تعطيل الدراسة والتأثير على الاقتصاد. وقد تجاهلت الصحيفة الأسباب التي دفعت الشعب إلى الثورة، وبدلاً من ذلك، دعت إلى التعاون مع السلطات البريطانية لحل المشكلات، متجاهلةً مطالبات الشعب بالاستقلال. وفي هذا السياق الموالي للاحتلال، لعبت صحيفة 'الوطن' دورًا هامًا في دعم سياسة الاستعمار البريطاني في مصر، حيث قدمت رواية مشوهة عن أحداث ثورة 1919، وحملت المتظاهرين مسؤولية كل ما حدث. وقد دعت الصحيفة المصريين إلى التخلي عن مطالبهم بالاستقلال والتعاون مع المحتل، زاعمة أن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والازدهار. وفي الوقت نفسه، شهدت ثورة 1919 المصرية نهضةً ملحوظة في فن الكاريكاتير، حيث تحول هذا الفن إلى سلاح فاعل في يد النُخب المثقفة والشعب للتعبير عن آمالهم وطموحاتهم. وقد استغل الرسامون الكاريكاتوريون هذه الفرصة لانتقاد النظام السياسي المستبد والاحتلال الأجنبي، مستلهمين إبداعاتهم من الحضارة المصرية القديمة التي كانت سباقة في استخدام هذا الفن كوسيلة للتعبير.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. الصحافة المصرية عندما صدرت بكل اللغات ولكل الطوائف وتفوقت على صحف أوروبا
ومع انتصار ثورة 1919 وتأسيس الدولة المصرية المستقلة وظهور الأحزاب وعلى رأسها حزب الوفد، تحولت مصر إلى مركز حراك لا يهدأ للصحافة ليس في وادي النيل فقط بل في كل بلاد العرب، بل صدرت من القاهرة صحف يصعب حصرها بكل اللغات ولكل الطوائف، وكانت الصحافة المصرية هي مصباح الثقافة والفن والأدب وأيضًا أداة سياسية لا يمكن هزيمتها طالما توافر لها مناخ الحرية، وعلى الرغم من كل الظروف والتقلبات التي شهدها المناخ السياسي في الفترة الملكية، فقد كانت صاحبة الجلالة في مصر على درجة من التقدم والازدهار الذي لم تعرفه دولًا أوروبية في ذلك الوقت مثل إيطاليا واليونان وحتى فرنسا من وقت وقوعها تحت إدارة حكومة فيشي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.